إبراهيم كلستان.. مئة عام نصفها صمت
رحيل الكاتب والمخرج الإيراني إبراهيم كلستان…
يُعدّ إبراهيم كلستان سليل عائلة مثقفة، فوالده محمد تقي كلستان كان ممثلًا عن المجلس التأسيسي الذي لعب دور المرحلة الانتقالية سنة 1925 ما بين الحكم القاجار إلى السلالة البهلوية التي حكمت إيران حتى سقوط الشاه إبّان الثورة الإيرانية 1979، كما كان صحافيًا يُدير صحيفة “كلستان”.
وُلد إبراهيم كلستان في شيراز 1922، وبعد أن أنهى دراسته الابتدائية والثانوية، قصد طهران لدراسة القانون، وهناك التحق بحزب “توده” الذي كان يستقطب المثقّفين والتقدّميين والطلبة الجامعيين من اليسار، ليتخلّى عن الدراسة الجامعية بعدها.
وخلال نشاطه الحزبي، راح يلتقط الصور الفوتوغرافية، لكنّه ما لبث أن ترك “توده” بعد خلافات دبّت في صفوف الحزب واتجه للعمل في مجال الأدب والفن.
عمل كلستان في شركة النفط الإيرانية البريطانية في قسم النشر، وهناك أيضًا قام بترجمات عالميّة إلى الفارسية، كما عمل مع المجلة الإنجليزية “ديلي نيوز”. عمله مع شركات النفط أثار انتقادات واسعة من أدباء يساريين، أبرزهم جلال آل أحمد، حتى أطلقوا عليه اسم “كلستان النفطي”.
أسس استوديو باسم “ستوديو كلستان”، وأنتج أفلامًا كان أهمّها “البيت الأسود”، الذي أخرجته الشاعرة ذائعة الصيت فروغ فرخزاد،.
رحل الرجل عن عمر مئة عام وعام (1922 – 2023) في لندن، المدينة التي سكنها منذ غادر إيران عام 1977.
ريادة البدايات
كاتب، قاصّ، مُخرج، مُترجم ومصوّر، كما يُعَدُّ أحد الشخصيات الأدبية والفنية الأكثر تأثيرًا في إيران، خاصة بعد موجة الحداثة، سواءً في القصّة أو في السينما والتصوير. ففي القصّة عادةً ما يُقارن من حيث التأثير والقوة بصادق هدايت وجمال زاده وجلال آل أحمد، وفي السينما هو أوّل مخرج إيراني يحصل على جائزة دولية، وفي التصوير، يُعدّ مصوّر البورتريه الأوّل في إيران.
في الإخراج الوثائقي، قدّم كلستان أوّل أفلامه الوثائقية بعنوان يك آتش/ حريق عام 1961، الذي يحكي قصّة السيطرة على حريق عظيم استمر 65 يومًا، طاول آبار النفط في الأهواز جنوب غرب إيران. تم إنتاج الفيلم من قبل مؤسّسات تابعة لشركة النفط التي يعمل بها، وقد حصل على الميدالية البرونزية في مهرجان البندقية للأفلام القصيرة،.بذلك بات كلستان المخرج الإيراني الأول الذي يفوز بجائزةٍ دولية.
في السينما، غالبًا ما يُنظر إلى كلستان كأحد روّاد الفترة المسمّاة بـ “الموجة الجديدة”، إلى جانب آخرين، كغفاري ورهنما وساعدي غيرهم. من أبرز أفلامه طين ومرآة/خشت وآينه، الذي أخرجه عام 1964، وفيلم أسرار كنز وادي جني/اسرار گنج درهی جنی عام 1971.
في الإنتاج، أنشأ كلستان أوّل استوديو سينمائيًّا في إيران عام 1957، وأنتج عام 1962 أحد أهم الأفلام الوثائقية في تلك الحقبة، وهو فيلم خانه سياه/البيت الأسود للمخرجة والشاعرة ذائعة الصيت فروغ فرخزاد، وهو فيلم يحكي عن مرض الجذام، وقد فاز بجائزة أفضل فيلم وثائقي في مهرجان ألمانيا الغربية السينمائي، وقد كان لكلستان الفضل في تعريف فرخزاد على التصوير والإخراج.
في الترجمة، قدّم كلستان روائع عالميّة، مترجمً إياها إلى الفارسية، حيث ترجم روايات لإرنست همنغواي، وليام فولكنر، أنطون تشيخوف ومارك توين، كما ترجم دون جوان في الجحيم لجورج برنارد شو، وكتابًا لماركس وملخَّصًا للمبادئ الماركسية للينين.
في الكتابة، يُعدّ إبراهيم كلستان أحد أعظم الأدباء الإيرانيين المعاصرين، حيث كان له أسلوبه الخاص. ومع تفرّد تجربته، يعتقد بعض النقّاد بأنّ أسلوبه متأثرٌ لدرجة ما بهمنغواي، إلا أنّ له صوته المتفرّد، فقد كتب به سردًا قصصيًا مميّزًا، وأصدر أربع مجموعات قصصية وقصّتين طويلتين، منها آذر آخر فصل للخريف/آذر ماه آخر پاییز، السمكة وتوأمتها/ماهی و جفتش، قصة الديك/خروس وقصته الطويلة التي حوّلها إلى فيلم بذات العنوان “أسرار كنز وادي جني/اسرار گنج درهی جنی”.
ويؤكّد كلستان أنّ أسلوبه في قصصه تجاوز همنغواي، بينما قارنه الناقد الإيراني المعروف حسن مير عابديني بأسلوب فولكنر.
في التصوير الفوتوغرافي، يقول عنه صانع الأفلام الوثائقية والسينمائي والمذيع في قناة “بي بي سي فارسي” حسن صلح جو إنّ صوره لقادة حزب “توده” تُعدّ حركة رائدة في التصوير الفوتوغرافي الإيراني، كما أنّه صوّر حقول النفط والعمّال وغيرها، وكان له في هذا المجال صور فوتوغرافية رائدة.
أخيرًا، يصف حسن صلح جو كلستان بما يلي: “من الصعب أن تكون كاتبًا رائدًا، ومصوّرًا فوتوغرافيًا مبدعًا، وصانع أفلام في المجالين الوثائقي والسينمائي، وتتخلّى فجأة عن كل شيء”.
قصة حب كلستان وفرخزاد
يعرف القارئ العربي إبراهيم كلستان غالبًا عن طريق الشاعرة فروغ فرخّزاد، التي يبرز اسمها في الترجمات العربية بكثرة، وعن طريقها يعرفون كلستان أكثر من كونه مثقفًا ومخرجًا وكاتبًا.
قصة حبّ كلستان وفرخزاد تذكّرنا بالكثير من العلاقات بين الكتّاب العرب المعاصرين ومكاتباتهم ورسائلهم، كمراسلات جبران ومي زيادة وغادة السمّان وكنفاني، ومؤخرًا رسائل نزار قباني إلى غادة السمان، وغيرها.
تزوّجت فروغ فرخزاد في سنة مبكّرة زواجًا انتهى بالانفصال، منجبةً ابنها الوحيد كاميار. بعدها تعرّفت. بكلستان الذي كان حاضرًا بقوّة في الساحة الثقافية، وقد جمعتهما علاقة حبّ، دامت حتى وفاة فرخزاد بحادث سير.
وعلى الرغم من أنّ كلستان كان متزوّجًا، إلا أنّ علاقته مع فرخزاد كانت قائمة، فتسبّبت بانتقاده وربما بالغيرة منه.
أدخل كلستان فرخزاد مجال الإخراج والسينما، فأخرجت فيلم البيت الأسود، الذي نال استحسان النقّاد بشكل غير مسبوق، كما عملت في أفلام أخرى بمهام تحريرية وتصوير وغيرها.
ومن رسائلها التي نشرها كلّ من ناطق عزيز – أحمد عبد الحسين، نرفق إليكم هذه الرسائل، مذيّلة في النهاية بقصيدة لفروغ، مهداةً إلى إ.كـ (إبراهيم كلستان):
أشعر تحت جلدي بانقباض وغثيان. أريد تمزيق كل شيء. أريد أن أتقوقع في ذاتي ما أمكنني. أريد الانطواء في أعماق الأرض، فهناك حبّي. هناك عندما تخضرّ البذور وتتواشج الجذور يلتقي التفسخ والانبعاث، وجود ما قبل الولادة وما بعد الولادة، كأنًما جسدي شكل مؤقت سرعان ما سيزول.
أريد الوصول إلى الأصل، أرغب بتعليق قلبي على الأغصان مثل فاكهة طازجة..
سعيت دائماً لأكون بوّابة موصدة، لئلّا يطّلع أحد على حياتي الباطنية الموحشة، لئلّا يعرف أحد حياتي… سعيت لكي أكون آدمية، ولكن كان في داخلي على الدوام كائنًا حيًّا.
قد ندحرج إحساسنا بأقدامنا، لكننا لا نستطيع أن نرفضه أبداً. لا أعرف الوصول.. لكني أعتقد بأنّه هناك هدفاً، هدف ينساب من وجودي كله إليه، آه.. لو أموت وأُبعثُ ثانية لأرى الدنيا شكلاً آخر.
العالم ليس ظلماً بكلّيته، والناس، الناس المتعبون ينسون أنفسهم دائماً، فلا يسيّج أحد منهم بيته. الإدمان على عادات الحياة المضحكة، والإذعان للمحدودية والعوائق، كلها أعمال مخالفة للطبيعة.
إن حرماني، وإن يكن قد منحني الحزن، فهو على العكس من ذلك أيضاً أعطاني هذه الميزة:
لقد نجّاني من فخاخ التهتك المخادع في العلاقات المحتملة. فالحرمان يقرّب العلاقة إلى مركز الاضطرابات والتحوّلات الأصلية. لا أريد أن أشبع، أريد الوصول إلى فضيلة الشبع.
عمّدني بنبيذ الأمواج إلى: إ.ك
وجودي كلّه آية مظلمة
تكررك دائماً في نفسها
ستأخذك إلى سَحَر الاندهاش
والعود الأبدي.
أنا تأوّهتك في هذه الآية: آه…
أنا، بهذه الآية، ربطتُكَ بالشجر
والماء
والنار.