الجادّة: طريقٌ في اتجاهين

ملجأ.. تجربة قصصية مختلفة للسينمائي ناصر تقوايي

للمشاركة:

رسم ناصر تقوايي (1941م) بفيلمه الشهير “الهدوء في حضور الآ خرين” عام 1973م الضلع الثالث لمثلث التغيير في السينما الإيرانية، إلى جانب فيلمي “قيصر” لمسعود كيمايي، و”البقرة” لداريوش مهرجويي.
ارتبط اسم تقوايي بالشاشة الذهبية رغم نجاحه الكبير في مسلسله التلفزيوني “خالي العزيز نابليون”.
لتقوايي تجربة فريدة في كتابة القصة القصيرة سبقت دخوله عالم السينما، اختصرها في مجموعة واحدة عنوانها “صيف هذا العام”، طُبعت للمرة الأولى عام 1969، وضمت ثمانية قصص تدور حول حياة العمال في موانئ الجنوب الإيراني في منتصف القرن العشرين، وهو المكان الذي أحبه تقوايي ونسج فيه ذكرياته الأولى التي رافقته في رحلة عمله الطويلة في الفن، حيث يقول: “أنا أحب إيران لأنها أرضي، وأحب خوزستان لأنها ولايتي، وأعشق آبادان لأنها مسقط رأسي”.

كل قصة في مجموعة “صيف هذا العام” مستقلة بحد ذاتها، إلا أن مواضيع القصص متقاربة، كما أنّ الشخصيات تتقاطع في بعض القصص، فنرى راوي القصة الثانية يُقتل في القصة الأخيرة.
يتيح تقوايي المجال للقارئ لمشاركته قصته، وبنثر بسيط بعيد عن التعقيد ينتقي حواراته من دون أن يخفي بصمته.
“ملجأ”، هي إحدى قصص مجموعة “صيف هذا العام”، اتبع فيها تقوايي أسلوب إرنست همنغواي القصصي، الذي يفترض فيه القاص عدم معرفة القارئ بأي تفصيل، يزوده بالمعلومات الدقيقة عن المكان والأشياء.

نروي هنا هذه القصة باللغة العربية.

ملجأ

قيدوا حركتي بصعوبة. العجوز أمسك بي من الخلف والآخر أخذ يشدني من يدي اليسرى. كان بإمكاني رميهم لكنني لم أستطع، فيد واحدة لا تكفي.
قال لهم الدكتور : إتركوه”
كان يقف في الممر بلباسه الأبيض وقبعته البيضاء، يشبه قباطَنة السفن ذوي المراسي الصفراء.
قلت له: “مساء الخير أيها القبطان”
سألني: “هل أشبه القباطنة؟ كيف أبدو”؟
لم يفكر بالأمر مسبقاً، كان عليه أن ينظر لنفسه بالمرآة وهو يرتدي هذه القبعة.
“ألم تذهب إلى البحر يا قبطان”؟
“لا”.
“كان عليك أن تذهب”.
“لا يعجبني”.
“ممتع جداً”.
“هل تريد الذهاب؟” قال لي الدكتور وأكمل “هل عليك أن تذهب”؟
“نعم يا سيدي القبطان”.
لم يخطر لي أنني سأذهب إلى أي مكان.
“إلى أين”؟
“لا أعلم. إلى وكر ما”.
“وکر”؟
“مکان ما مثل هذا المكان، هل سبق لك أن رأيت أفعى أيها القبطان”؟
“الكثير منها”.
“لا هناك الأفاعي محبوسة خلف الزجاج، أقصد أفعى قُسم نصفها”.
“لا لم أرَ”.
“أنظر هناك قسم منها رأسها يتحرك، تبحث عن جحر لها تدفن فيه نفسها، هل تفهم يا كابتن”؟
“نعم أفهم، أفهم”، قال وذهب.
ما إن ذهب حتى قال لي العجوز “تحرّك يا سمك الشبوط”.

قيّدني مرة ثانية، أغضبني حتى بدأت بالشتم والتكفير، كل ما حولي كان أبيض اللون، ليس أبيض، بل نظيفاً. ضاق نفسي من رائحة الكحول التي تملأ المكان، لكنها لا تُسكر ولا تمتزج بالدخان. في نهاية الممرّ كان هناك باب، رموني خارجاً، هزأت بهم ثلاثة أشهر، لم أنظر إلى خلفي حتى أرى كيف يمسحون أيديهم بمراويلهم.
كانت ليلة ضبابية، كأنها بدأت للتو، لا أذكر شيئاً، مثل الولادة التي لا تبقى في ذاكرة الإنسان. أذكر فقط خيالات كأنني نسيت شيئاً في المستشفى. لم أعُد. كانت النظافة والترتيب تزعجانني. وصلت إلى نهاية الشارع، رأيت كورنيشاً بحرياً، ومن خلف الضباب لمحت أنوار السواري. أدركت أنني على رصيف الميناء. كان خالي من المارة. 7A كان فارغاً، وفي 7B كانت بارجة لافينيا تتحضر للمغادرة. سحبوا حبالها. كل الأخبار كانت على 7C. كانت هناك حركة من لون جعب البضائع المصفوفة، يمكن لي أن أتذكر لون البيرة، لم أحتسِها منذ ثلاثة أشهر، لكنني لم أذهب باتجاه البار.

في نهاية الرصيف كانت سفينة “أكوان” ترسو قرب 7C، سررت لرؤيتها، كانت فيما مضى سفينة الأصدقاء. تجوّلت بين السلالم الخشبية والمستودع. ملأت رائحة الويسكي أنفي، لكنني كنت محظوظاً هذه المرة بعد فترة طويلة من الحظ السيء. بدأت أنزل على سلالم المستودع، غير أني لم أتمكن من الهبوط سالمًا، فيد واحدة لا تكفي. وقعت في السرداب حيث يجتمع الشباب. خافوا فجأة، فقد خُيِّلَ لهم قدوم الشرطة، وعندما رأوني خافوا أكثر، لم يعلموا أنني عدت، فلم أخبرهم بعد.

قلت: “مرحباً يا شباب، هل أزعجت سهرتكم”؟
كان جو المستودع ثقيلاً جداً.
“متى خرجت؟”
“الآن، حظي جميل جداً، فقد خرجت في الوقت المناسب، أليس كذلك؟”
“يبدو يا اسي نحن أصحاب الحظ السيء”.
“لماذا”؟
“لأنه لن يتيح لنا الوقت”.
“من”؟
“ذاك.. ذاك.. “. وأشار برأسه إلى نافذة المستودع، إلى السماء المظلمة.
“ماذا حدث إذا”؟ صرخت.
غضبت من جديد وبدأت بالشتم.
“ألم يقل لك مندي؟”
“يقول ماذا؟”
صرخ الرجل من قرب أوعية البيرة “لماذا تعذبوه؟ لماذا لا تقولون له إنه أيضاً عديم الحظ؟”
كان يصرخ وكأنه الرئيس، مثلما كنت أفعل. وقف أمامي وأعطاني زجاجة بيرة. لم يعجبني ذلك، كأنه يتصدّق بها عليّ.
قال “اسي لقد طردوك من العمل”.
سمعت صوت الزجاجة تتدحرج من يدي. عيون الجميع تحملق في الأرض.
لا أدري كم مضى وقت على لحظة الصمت. صعدت السلالم. وقعت مرة ثانية على الأرض. شعرت بألم في يدي. كان جلدي يتفسخ مرة ثانية، وذلك الخلع عاد للاهتزاز.
مضيت نحو سفينة “اكوان”. لم أرَهم من قبل يستخدمونها، وكأنهم وضعوها هنا في انتظار حمولة لم تأتِ بعد. كنت أشم رائحة “مندي” مخلوطة بالويسكي. رفع رأسه بين يديه. أمامه زجاجة ويسكي “توبورغ” نصفها فارغ من دون غطاء. اقتربت نحوه في الظلام.
“قل يا مندي ماذا حدث”.
“اسي أنا حاولت، فعلت كل ما يمكن لك أن تفعله لو كنت أنت مكاني. لقد توقعت ذلك منذ البداية، لم أبصق عبثاً على سيارة الإسعاف البيضاء”. رفع يديه عن وجهه وأمعن في الظلام يشاهد شجر النخل على ذلك الطرف من الشاطئ.

“في ذلك اليوم نفسه جاء السيد برودريك مع حقيبته السوداء وعاملين جديدين، وقال “اسي ايز دِد حمي ايز فينشد” وأشياء أخرى لم اسمعها، كنت أفكر في أسمائكم، عندما قال ذلك الوغد “مضحك صحيح؟”
“أظن أن المستر برودريك فعل ذلك ليعتبر الجميع”.
هل تعلم ماذا فعلتُ بعدها؟ ذهبت إلى مقهى البحر وحطمت المكان على رأس صاحبه. العبرة في ما فعلتُ أنه لو أنت كنت مكاني لفعلت ذات الأمر”.

“هل بقي شيء في الزجاجة”؟
وضع نصف الزجاجة في علبة.
“اسي، أنا أسف لما أذاب يدك، ليس لك حظ، كنا مخطئين عندما ظننا أنك بدأت تنهض بنفسك”.
“لماذا لم تأتِ لتقول لي؟”
“لم أستطع”.
“لماذا؟”
“أنا سألت المستر بودريك أيضاً، قال لي إنه لا حاجة لك من الآن وصاعداً، لقد كان يعرف أن الأمر خطير، وأنت أيضاً تعلم أن البرميل مليء بالأسيد”.

“بدا الأمر جيداً في البداية”
“كان لديك الجرأة، لكنك افتقدت للحظ، حميد أيضاً لم يكن لديه حظ”.

“تكثر من الكلام”
“لا يمكنني السكوت، لماذا أتيت”؟
“أفعى، ألم ترى أفعى”؟
“أفعى”؟

تجرعت من علبة الوسكي، لكن لم أشعر بتحسن.
قال: “لو تستطيع البكاء”.
“يكفي”.
“هل تريد أن نذهب إلى المقبرة؟ ربما يمكنك هناك البكاء. لقد قمنا بكل ما يجب فعله. بقي حجر القبر. لم نعرف ماذا نكتب. لم تسعفنا الذاكرة بعبارة جميلة. أحد الشباب خط عليها: Hamid is finished وضعنا فوقه باقة ورد جميلة، وكل أسبوع نضع واحدةً أخرى. إذا ذهبنا اليوم يمكنك أن ترى آخر باقة، إن لم يأخذها أحد”.

“هل هناك المزيد”.

رمى الزجاجة على الشط وبصق على الشط مرة ثانية.
كان الليل ثقيلاً والشباب على الشط يصدرون ضجة عالية، والكلاب تشتمهم من بعيد. لا أحد يعبر بالقرب من أماكن العمال. نهض مندي ومشى قليلاً “ألا تأتي”؟

“لا”.

“سأذهب لأتركك وحدك، أعلم أن الأمر بالنسبة لك مهم جداً، ليتك تستطيع البكاء قليلاً، من الأفضل أن لا تحبس دموعك”. مضى قليلاً ثم توقف مرة ثانية. لا يرغب في الرحيل.
“إذا رأيت نفسك وحيداً، يمكنك القدوم إلينا، لدينا غرفة إضافية ليست كبيرة ولكن يمكن أن تضع فيها فرشة للنوم”.
نظرت إليه، فخجل، طأطأ رأسه ورحل.
نباح الكلاب انتهى إيضاً. أمعنت النظر إلى الشاطئ. كنت أرى زجاجة الويسكي تأتي من ثقوب الشاطئ، وتعود إلى الخلف مرة ثانية.

جاده ايران تلغرام
للمشاركة: