الجادّة: طريقٌ في اتجاهين
قراءة طويلة23 مارس 2022 08:08
للمشاركة:

رحيل محمد ري شهري.. صندوق ثمانينات إيران الأسود

في الساعات الأخيرة من الیوم الأول في العام الشمسي الجدید، توفي رجل في أحد المستشفیات في طهران یمکن اعتباره بجانب علي فلاحیان، أحد المهندسین الرئیسین للمنظومة الأمنية في الجمهوریة الاسلامیة. إنه محمد ري شهري، واحد من أبرز اللاعبین في المشهد السیاسی في إيران خلال العقدین الأولين بعد انتصار الثورة التي قادها آية الله روح الله الخميني عام 1979.

نفوذه في تحدید مصیر النظام جعل بعض المؤرّخين یعتبرونه أحدى الأضلاع الثلاثة الرئیسة للسطلة خلال الثمانينات، إلى جانب أكبر هاشمي رفسنجاني وأحمد الخمیني (نجل قائد الثورة الأول)، إلا أنه ورغم دوره الکبیر في السلطه السیاسیة آنذاك، غادر المشهد تدریجیاً وأمضى السنوات الأخيرة من عمره فی الظل، ليشغل نفسه بالأنشطة الاقتصادیة وإدارة بعض المراکز الهامشیة البعيدة جداً عن السیاسیة، كالوصاية على حرم الإمام عبد العظيم الحسني فی مدینة ري القریبة من العاصمة طهران.

الدخول في الثورة والمحاکم الشرعیة

عند انتصار الثورة، کان محمد ري شهري شاباً یبلغ من عمره 32 عاماً فقط، لكنه تمکّن من الدخول في المجموعات الثوریة بفضل مصاهرته لاول رئيس لمجلس الخبراء آية الله علی مشکینی. ولكونه عالم دين، أصبح قاضیاً شاباً في المحاكم الشرعية في مدن کبیرة، منها دزفول ورشت. وهذه المحاكم في السنوات الأولى من حياة الجمهوریة الإسلامية كانت عبارة عن اسم آخر للمحاکم الثوریة التي نشأت علی الفور بهدف القضاء علی الخصوم وعملاء النظام السابق.

خلال تلك الفترة، أصدر ري شهري آلاف الأحكام بالإعدام بحق المعارضین أو الخصوم، قيل إن بعضها لم تکن عادلة، وإنها لم تصدر في ظروف طبیعیة، حیث لم یکن من حق المشتبه به أن یدافع عن نفسه، لکنّ تلك المحاکم کانت تصدر أحكاماً عشوائیة بحق مجموعات كبيرة من المتهمين، كما يروي بعض المعارضين. ومن أبرز القضايا التي لمع نجمه محاكمة المتهمين بالمشاركة في الانقلاب الفاشل بقاعدة “نوجة” العسكرية الجوية. كما قاد التحقيق مع وزير الخارجية في تلك الفترة واحد المقربين للامام الخميني، صادق قطب زاده، ثم أصدر حكما بإعدام قطب زاده بتهمة التخطيط لاغتيال الخميني والإطاحة بالجمهورية الإسلامية وقد أعدم رميا بالرصاص داخل سجن “ايفين”.

کان هناك القلیل من علماء الدین الثوریین الذین کانوا یحکمون فی المحاکم خلال تلك السنوات، وبنفس الوقت کانوا علی درایة بأنشطة مخابراتیة. محمد ري شهري بجانب أسماء کبیرة أخرى، منها علي فلاحیان (وزیر المخابرات خلال رئاسة هاشمي رفسنجاني) أو علي یونسي (وزیر المخابرات خلال رئاسة محمد خاتمي) أو مصطفی بورمحمدی (وزیر المخابرات خلال رئاسة أحمدي نجاد)، أداروا ملفات أمنية خطیرة لمواجهه التیارات الیساریة، والتجسس في المؤسسات العسکریة والمحاولات الهادفة لإسقاط النظام الحاكم.

رحيل محمد ري شهري.. صندوق ثمانينات إيران الأسود 1

صعود نجم ري شهري في الصراع علی خلافه القائد

في عام 1984، وبقرار من قیادة الثورة، تم دمج جمیع المؤسسات المخابراتیة للنظام الجدید (علی الأقل ثلاث مؤسسات موازیة) في وزارة واحدة تُسمّى وزارة المخابرات “اطلاعات”. وعلى إثر ذلك، طالب رئيس الوزراء آنذاك میر حسين موسوي (رئیس الوزراء خلال رئاسة آية الله علي خامنئي ويعيش الآن في الإقامة الجبرية) علي فلاحیان بتسلم الوزارة، لکنّ الأخير طلب بتعيين صدیقه القدیم، محمد ري شهري في المنصب، وبعد موافقة قیادة الثورة وجمیع مراکزها على المرشح، أصبح القاضي وعالم الدين بعمر 38 عاماً أول وزیر للمخابرات، وبقي فيها حتى عام 1989.

کانت فترة متوترة، والمعارك الأمنية فيها باتت أكثر تعقيداً من مجرد مواجهة بعض المجموعات الیساریة أو العسکریین الذین استمرّوا على ارتباطهم بالشاه. فبعد الاستقرار النسبی للنظام من خلال القضاء علی الیسار وسقوط حکومة اللیبرالیین (برئاسة مهدي بازرغان)، بدأت دوائر الصراع بین الإسلاميين و بیوت علماء الشیعة تظهر تدریجیاً علی مسألة قيادة البلاد من قبل آية الله الخمینی. وشكل اثنان من علماء الدين، شریعتمداري ومنتظري، مع أنصارهما تحدیاً لمستقبل فریق الثورة المقرب من بیت آیه الله الخمینی، المتثمل بشخصیات مهمة، منها هاشمي رفسجاني، علي خامنئي، أحمد خمیني وآخرون.

راهن هؤلاء علی وزارة المخابرات و خبرة ري شهري في مواجهة تلك التحديات، فصعد نجم ري شهري من خلال هذه الاضطرابات التي أدت إلى القضاء علی ایه الله شریعتمداري بالکامل وبعد تهمة “التواطئ على الثورة ومحاولة اغتيال قائدها آنذاك آية الله الخميني”، التي وجهها ري شهري لشريعتمداري، وضعه في الإقامة الجبرية كما فعل الأمر عينه مع آية الله محمد منتظري الذي کان نائباً للإمام الخمیني.

وبحسب روایة بعض المعارضین، ذهب ري شهري بعیداً جداً في استخدام العنف لإخافة من يواجههم، ومن ثم ترکیعهم وإجبارهم على التراجع والتخلّي عن السلطة خلال تلك السنوات. على سبیل المثال، بینما لم یجرؤ أحد علی التحقيق مع ایه الله شریعتمداري بوصفه أحد أكبر علماء الشیعة، استجوبه ري شهري شخصیاً بتهمه المؤامرة للانقلاب ضد النظام الإسلامي، حتى أنه صفعه علی وجهه خلال إحدى الجلسات، مما كلّفه ثمناً باهظاً لجهة سمعته في الحوزات الشیعیة، وحتی داخل بعض المراکز السیاسیة، لكنه لم یهتم لكل هذا وتابع قتال خصومه والمتنافسين لخلافة آية الله الخمینی، خاصة أنصار آية الله منتظري، منهم شقيق صهره مهدي هاشمي، الذي فشل في الخلية أمام ري شهري بعد صراع أمني طویل ومعقد جداً، انتهى باعتقاله تحت تهمة العثور على مواد ممنوعة وأسلحة في أحد البيوت التي يشرف عليها هاشمي، مما قاد لإصدار حكم إعدام بحقه من قبل محكمة الثورة. لاحقا وجهت لری شهری اتهامات بأنه المخطط الرئيسي للإعدامات الكبيرة التي وقعت صيف عام 1988 وذكرت بعض وسائل الإعلام أن ري شهري هو الذي أخذ الأوامر من أية الله الخميني لتنفيذ حكم الإعدام.

الجدير ذكره، أن وزير الاستخبارات الإيراني الأسبق في خضم كل ما سلف من عمل، لم يغفل عن محاولة إيجاد مكانة خاصة لنفسه بعد وفاه القائد الأول للجمهورية و بدایة العصر الجدید للنظام. ومع ذلك، لم يصل لمبتغاه بعد قیادة آية الله خامنئي للبلاد، حیث تم تهمیش ري شهري تدريجياً.

الخساره في الانتخابات: تراجع نجم ري شهري واللجوء إلى الاقتصاد

توفي أحمد الخمیني بعد أقل من خمسة أعوام من تولي آية الله خامنئی قيادة إيران، وبذلك فقد ري شهري أحد أكبر داعميه في النخبة السیاسیة. ورداً علی تهمیشه من المناصب الرئیسیة، أنشأ وزير المخابرات السابق حزباً جدیداً سمّاه “جمعیة الدفاع عن الثوره الإسلامية”، بمشارکه التیار الیمیني من المخابرات (نفس المجموعه التي أنشأت بعد سنوات جبهة پایداري التي تعارض الآن الاتفاق النووي وتعتبر متشددة جداً).

حاول ري شهري أن یختبر حظه من خلال المشارکة في الانتخابات الرئاسیة بمواجهة علي أكبر ناطق نوري ومحمد خاتمي، لکنه فشل فشلاً کبیراً عندما حصل علی أقل من 3% من الأصوات، فابتعد عن العملیة السیاسیة حتی آخر عمره، ما عدا المشارکة في انتخابات مجلس الخبراء، الذي يُعهد إليه مراقبة عمل القائد الأعلى للبلاد.

وبعد استقالته من رئاسة منظمة الحج في عام 2009، تسلّم إدارة حرم عيد العظيم الحسني في مدینة الري القریبة من العاصمة، وفي نفس الفترة انتقل إلى الأنشطة الاقتصادیة من خلال تأسيس شرکة «فواد ري» القابضة، والتي تنشط في الکثیر من القاطاعات الاقتصادية، منها استیراد المواد الغذائیة وصناعة السیارات والمناجم.

وخلافاً لکثیر من رجال الثورة الذین تم تهمیشهم، اختار ري شهري أن یواصل الصمت حتی آخر یوم من حیاته، وهکذا ترك خلفه أسراراً كثيرة قد تبقی مجهولة إلى الأبد.

*حسين كشاورز- باحث وصحفي إيراني

جاده ايران تلغرام
للمشاركة: