تعتبر اللغة الفارسية، أو الدارية كما تعرف في أفغانستان، اللغة الأم لأكثر من نصف السكان هناك، فضلًا عن أنها اللغة الرسمية المشتركة التي تستخدمها أغلب القوميات للتواصل فيما بينها. وكما هي في الداخل، فهي أيضا نقطة ارتكاز في التواصل بين الشعب الأفغاني وبعض الدول المجاورة الناطقة بالفارسية، وتحديدا إيران. من هذه النافذة سنلقي نظرة على الشعر الفارسي الحديث في أفغانستان والذي قمعته الظروف السياسية والأمنية للبلاد وحولته جوهرة مدفونة مجهولة للخارج تحت ركام الأحداث.
إلياس عَلَوي
هكذا يعرّف نفسه: “أنا إلياس علوي. وأدعى باسمين آخرين كذلك، محمد ورحمة الله. أكتب قليلا من الشعر. وأشخبط قليلا. وأنام كثيرا. وأهم ما أملك في حياتي المبعثرة، الشاي الأخضر بالقرنفل، وأمي وأصدقائي”. رغم هذا التعريف البسيط فإن إلياس علوي يحظى بمعرفة كل ناطق بالفارسية ومهتم بالأدب والفن التشكيلي. ولد إلياس في أفغانستان وعندما كان طفلا بالسادسة من عمره انتقلت به أسرته إلى مدينة مشهد الإيرانية، بقي هناك حتى بلغ الشباب وعاد إلى بلده الأم، وقضي فترة بكابول. وهو يعيش اليوم في أستراليا. إضافة إلى الشعر فهو رسام ويحمل شهادتين بالفنون التشكيلية، واحدة من جامعة لندن وأخرى من جامعة جنوب أستراليا.
إلياس علوي، الشاعر الذي أخبرنا بحزنه حين سافر إلى السليمانية وأخبر صديقه الكردي “كاكا خسرو” بذلك:
”كاكا خسرو، العالَم يُحزنني
وشروق الشمس يحزنني
ودوران الناس حول مربع خال
وصوت الأجراس
وصوت أبي
وصوت فتاة جميلة تقرأ أخبار الحرب.. يحزنني”.
وكتب كذلك في قصيدته لـ”كاكا خسرو”:
”كاكا خسرو
ريثما نقرأ هذا الشعر
كم فتى مثليّ يتسلّق سلّم الموت في رواندا؟
وفي قندهار، كم عدد القادة وأعضاء البرلمان السابقين الذين نهضوا من فراش طفل جائع؟
وكم امرأة بغدادية تعود من المقبرة إلى البيت؟
- البيت؟
”البيت” مواساة حمقى…
فلا مكان يُدعى البيت
ولا أحد يموت شهيدا
فالجميع يموتون
ويتعفنون”.
وكان الشاعر الأفغاني المغترب إلياس علوي قد أوصى “أخته” بالابتعاد عن الموت، لكنه واجه ردا لا يخضع لهذه الوصايا، حيث قال:
”قلت لأختي: ابتعدي عن ميادين المدينة، ومناطق سكن المسؤولين، وأسواق “كابول” المزدحمة، قالت: الموت هنا مثل الغبار في الجو، حتى وإن غلّقت جميع النوافذ، سيدخل غرفتك”.
وأخيرا قصيدة لإلياس علوي بعيدة عن الحروب – ربما ظاهرا فقط:
”تلك الأمسية”
نظرتُ إليكِ
إلى تلك الشؤون الصغيرة في جمالكِ
إلى تناسق عنقك الغامض
إلى أنفاسك التي قد ملأت الملهى ضبابًا
إلى قطرات تعرقك التي كانت تنحدر من طرّتيك
وتضيع بفستانك
تمنّيتُ: ليتني ولدتُ فستانًا
لكن لا
إنّني ولدتُ “مسحور الجمال”.
تسعة عشرة
ثمانية عشرة
سبعة عشرة
لا لم أصطبر أكثر
لملمتُ قلبي
اقتربتُ
وهمستُ بأذنكِ:
- ” هل لي بتقبيلك؟”
وأنتِ نظرتِ لي مترددة
حسبي هذه النظرة
(لم أنتظر تدخل الكلمات)
مثل ذئب مفترس
أصابعي دخلت شعركِ الكثيف
وشفتي على عنقك
وقلبي
قلبي منصدمًا.
تسعة
ثمانية
سبعة
سبعة ثوان حتى رأس السنة
سبعة ثوان حتى شفتيك.
وكنتُ شفتين من رأسي حتى قدَمي
عبرتُ من ممرات حنجرتك
وصلتُ لخدك
الذي كان جنة الأرض
ثم
شفتيكِ
شفتيكِ
شفتيكِ اللتين كانتا الشهوة
والسكينة
والنسيان
لا أعلم كم من الزمن أخذنا
خمس وعشرون ثانية أو خمس وعشرون ساعة؟
ولكنني آمنتُ بالمعراج
آمنتُ أن في خمس وعشرين ثانية نستطيع أن
نرى الكثير
نرى الكثير
الآن أعودُ لمدينتي
أجلسُ قرب الشباك
الطائرة تتمايل
يقول الطيار
- “اصطدمنا بكتلة ضبابية مفاجئة”
أبتسم
لأنني أعلم
أن هذا الضباب، خلّفته أنفاسنا
عند المعاشقة.
قد لا ألقاكِ ثانية
لكنني لستُ حزينًا
لأنّي أدركتُ أن
أحب ولكن لا أصر
أعشق ولكن لا أتعلق
أغمض عيني
وأتذكرُ تلك الأمسية:
نظرتُ إليكِ
إلى تلك الشؤون الصغيرة في جمالكِ…
رامين مَظهَر
ولد عام ١٩٩٥ في باميان بأفغانستان. يحمل شهادة بالأدب الفارسي من جامعة كابل. ويراه نقاد الأدب واحدا من آمال الشعر الحديث في أفغانستان. حصل رامين بالرغم من صغر سنه على جوائز عديدة في الأدب.
”أنت ملجئي
في العالم المليء بالحروب”
معروف بأبياته التي يعتبرها “أمنية بريئة مقابل الذين يريدون أن يدخلونا إلى الجنة” حسب قوله.
لا تخافين الحب، والأمل، والغد
لا تخافين حين أقبلك بين “طالبان”
لا ترتجفين حين أقبلك في المسجد
لا ترتجفين حين نشتم عطر “الزيزفون”
أقبلك بين الغصة والعزاء
تقبلينني بين الانتحاريين
أنت مؤمنة وصلاتك القبلات
أنت مختلفة فاحتجاجك القبلات
يقول رامين مظهر: “حاولت دائما ألّا يكون شعري تقريرا أو بيانا سياسيا. ولكن في البلد الذي يعتبر الشعر والرقص والصحافة والحب والغناء جناية لا تغتفر، فجميع هذه الأعمال تعتبر عملا سياسيا. في البلد الذي شعر النساء ولحية الرجال لهما علاقة بالسياسة، والجدار والشوارع واللغة والمذهب والخبز والماء والهواء سياسي، فكل عمل يعتبر عملا سياسيا”.
ويتابع: “إذن نعم كتابتي للشعر عمل سياسي، حتى وإن لم أكتب أي قول سياسي في شعري، بل حتى الامتناع عن كتابة الشعر عمل سياسي. في هذا الوضع حتى السكوت سياسي”.
مصطفى هزاره
عمره ٣٣ عاما، هو شاعر وصحفي أفغاني، وعندما سئل عمّا إذا كان شاعر صحفي أم صحافي شاعر، قال: “الصحفي الشاعر المليء بالآلام. مثل الطبيب المصاب بالسرطان ويحاول علاج الآخرين من المرض القاتل. فالصحفي الشاعر يموت ويحيا بإعداد كل خبر عن الحرب”. وردّد شعره “نعلم جيدا.. لا يوجد صحفي يعود حيا من الأحداث”.
يقول: “نكبر، بسرعة مثل ما يكبر الانفجار”. ويعتقد مصطفى هزاره:
”في اليوم الذي نصنع مزهرية من مقبض الكلاشينكوف
في اليوم الذي نزرع الرصاصات في الحديقة
أستبعد أن يكون أثرا مني ومنك
ولكن شالك المرفرف في الريح
سيكون علم السلام”.
وعندما سئل مصطفى “لماذا نشتم رائحة الدم من شعرك” قال: “الشعر أحمر دائما، فإذا كان حبا فالأحمر يكون رمانة، وإذا كان حربا فالأحمر دم، وإذا كان واديا فالأحمر جورية، وإذا كان ريفيا فالأحمر فيه لون السكر والنبيذ”.
شعراء أفغانستان يصرخون أمام الحرب
يُعزى حضور الشعر الأفغاني في المكتبة الفارسية إلى عدة أسباب أبرزها أن الشعراء الأفغان حريصون على نشر كتبهم وأعمالهم في جميع البلدان الناطقة بالفارسية مثل إيران وطاجيكستان إضافة إلى بلدهم الأم أفغانستان. وحتى أنهم يعتمدون دور نشر غير أفغانية لإصدار أعمالهم إضافة إلى النشر في أفغانستان. وتختلف أعمالهم لاشتمالها على رؤية تختص بهم وببيئتهم تتمثل في تمجيد السلام وتبيين خفايا الحرب، حيث أن هذه القضية تشكل الهاجس الأكبر لهم، فشعرهم –رغم الجراحات – ينادي ببناء بلد يخلو من العنف والحروب. وبما أن بلدهم ينتقل هذه الأيام من حقبة إلى حقبة، يبقى السؤال الحاضر هل تقربهم الحقبة الجديدة من طموحاتهم أم تبعدهم عنها؟