تسويات صغيرة في الطريق إلى “ظريف – بلينكن ١”
عندما توجه رافايل غروسي إلى طهران يوم ٢٠ شباط/ فبراير، لم يكن التفاؤل كبيرا بعودة المدير العام للوكالة الدولية للطاقة الذرية بشيء وازن من طهران. فموعد تطبيق قرار مجلس الشورى الإيراني تعليق العمل الطوعي ببنود البروتوكول الإضافي من اتفاقية منع الانتشار النووي NPT كان قد اقترب، بما يعنيه ذلك من الحد من وصول المفتشين إلى المواقع والمنشآت النووية دون إذن مسبق ومنع المفتشين من الحصول على لقطات من الكاميرات الأمنية التي تبقي بعض المواقع تحت المراقبة المستمرة.
كذلك بدت مساحة المناورة في الداخل الإيراني لدى حكومة الرئيس حسن روحاني وكأنها شديدة الضيق في ظل برلمان متحفز للهجوم أمام أي خطوة قد تحمل نوعا من التراجع في ظل عدم قيام الولايات المتحدة بأي خطوة من جانبها. ما حدث أن التفافا ذكيا سمح بصناعة تسوية صغيرة أعطت غروسي ورقة تقنية عاد بها إلى فيينا. فقد جرى الاتفاق على تحديد قائمة بالأماكن التي ستستمر فيها الكاميرات في التسجيل لكن الوكالة لن تستطيع الوصول إلى هذه التسجيلات التي ستبقى وفق رئيس منظمة الطاقة الذرية الإيرانية علي اكبر صالحي، مع طهران لمدة ثلاثة أشهر قبل أن تحذفها بشكل نهائي إذا لم ترفع العقوبات خلال تلك الفترة. وبحسب وثيقة نشرتها صحيفة “وطن أمروز” الأصولية “ستتاح للوكالة الدولية للطاقة الذرية الوصول إلى محتوى مقاطع الفيديو هذه عندما تستأنف إيران الامتثال لالتزاماتها النووية ذات الصلة بموجب مجلس الوكالة الدولية للطاقة الذرية بما في ذلك البروتوكول الإضافي”. وبالإشارة إلى قرار البرلمان القاضي بأن تطبيق البروتوكول الإضافي لن يتم إلا عند رفع جميع العقوبات بما في ذلك عقوبات النفط والعقوبات المصرفية، فإن الصحيفة تؤكد أنه بحسب تلك الوثيقة “سيكون للوكالة حق الوصول إلى مقاطع الفيديو التي سجلتها الكاميرات فقط عندما يصدر مجلس النواب هذا الإذن”.
وبينما انشغلت طهران بمعالم أزمة سياسية تمثلت بطلب البرلمان إلى السلطة القضائية محاكمة الرئيس، وأدها القائد الأعلى آية الله علي خامنئي بدعوة الطرفين للتفاهم، حمل غروسي ورقته ووضعها على طاولة مجلس حكام الوكالة في اجتماعهم الدوري بداية الشهر الجاري. كان متوقعا تقديم الدول الغربية لمشروع قرار يطلب من المجلس إدانة طهران بسبب تراجعها عن التزاماتها، لكن ورقة غروسي ساهمت بصناعة تسوية أخرى صغيرة تمثلت في التراجع عن تقديم المشروع وإعطاء طهران مهلة ثلاثة أشهر للعودة إلى التزاماتها، أي إلى موعد الاجتماع الدوري القادم في حزيران يونيو المقبل.
خطوتان صغيرتان وسط بحر من التوتر وانتظار ممل بين الدول الغربية وأميركا تحديدا من جهة، وبين الجمهورية الإسلامية من جهة ثانية، لقيام الطرف المقابل بالخطوة الأولى والتي من المفترض أن تشكل قبلة الحياة للاتفاق النووي الميت تقنيا والذي يتنفس بإجماع سياسي لدى كل الأطراف المشاركة فيه على أهمية بقائه مهما كان الثمن. هنا لا بد من الإشارة إلى أن الغطاء الخجول الذي اعطاه خامنئي للحكومة في خطابه يوم ٢٢ شباط/ فبراير وطلبه للبرلمان التوافق معها كي لا يظهر وكأن إيران منقسمة، هذا الغطاء كان كافيا للتأكيد لجميع الأطراف أن الخطوة بطبيعة الحال لم تكن ارتجالية وأن القائد الأعلى لم يمانعها طالما أنها لم تحمل تراجعا عمليا بالمجان.
في المقابل، مجرد الامتناع عن الإدانة من قبل واشنطن وحلفائها إشارة إلى رغبة في صناعة خطوات قد توصل إلى تسويات أكبر ربما تمهد للوصول إلى الهدف الأساسي. وهذا الهدف يعمل لأجله حاليا عدد من الأطراف المهتمين بتخفيض التوتر في ظل مؤشرات واضحة على إمكانية خروج الأمور عن السيطرة في حال ضلت واحدة من الرسائل طريقها. التوترات الميدانية في العراق بين قصف لمواقع أميركية وردود مقابلة على الجغرافيا السورية، وحادثة السفينة الإسرائيلية والقصف الإسرائيلي لمواقع تقول إنها إيرانية في سورية، بالتوازي مع الهجمات الحوثية على مواقع سعودية، كلها تشكل شكلا من أشكال التفاوض بالنار، ولعلها أيضا تشير إلى أن المحور الذي تقوده إيران تخلص سريعاً من التكبيل الذي كان قد أصابه به دونالد ترامب منذ اغتيال قائد قوة القدس قاسم سليماني وأبو مهدي المهندس.
تبدو واشنطن وطهران على وضعية الصامت دبلوماسيا، إلا أنه لا يمكن استبعاد وجود دبلوماسية صامتة تجري بينهما، لكن المشكلة الحقيقية أن بايدن يبدو أكثر تكبيلا من روحاني
في هذا الإطار، وفي ظل التأكيد الإسرائيلي المستمر على رفض العودة الأميركية للاتفاق النووي والتهديد بفعل أي شيء لمنع إيران من الحصول على القنبلة النووية، لفت بشكل كبير تزويد الجيش الأميركي لقناة CBS الأميركية بمشاهد خاصة ومقابلات صادمة مع ضباط وجنود أميركيين شهدوا القصف الإيراني الانتقامي لقاعدة عين الأسد بداية العام ٢٠٢٠. قد لا تكون هناك خلفيات للأمر، لكن المشاهد ترسل رسالة لحلفاء واشنطن في المنطقة بأن الاصطدام مع إيران لن يكون بالدرجة الأولى نزهة، والأهم أن عواقب هكذا مغامرة قد تكون أكثر بكثير مما يمكن كسبه، هذا في الحد الأدنى، وبالتالي فشرق أوسط مع اتفاق نووي مع إيران أفضل بأشواط منه بدون الاتفاق، كما كررت إدارة بايدن في أكثر من مناسبة آخرها تصريح وزير الخارجية أنتوني بلينكن الذي حذّر من أن إيران تقترب أكثر فأكثر من “نقطة الاختراق” لإنتاج ما يكفي من المواد الانشطارية لسلاح نووي، مؤكداً أن إدارة الرئيس جو بايدن لا تزال ملتزمة بـ”إعادة الانخراط في الدبلوماسية” من أجل العودة إلى الاتفاق النووي.
وفيما تبدو واشنطن وطهران على وضعية الصامت دبلوماسيا، إلا أنه لا يمكن استبعاد وجود دبلوماسية صامتة تجري بينهما، لكن المشكلة الحقيقية أن بايدن يبدو أكثر تكبيلا من روحاني، إذ أنه لا يزال يحاول الاستحصال من الكونغرس على تأييد تعيين عدد من موظفيه الكبار، وهو حتى اللحظة يعمل بدون مدير لوكالة الاستخبارات المركزية، الذي لم يحصل بعد على موافقة الكونغرس. وليام بيرنز، هو أحد أوائل من تحدثوا إلى الإيرانيين وتأخر تعيينه يعود توازنات داخلية أميركية، لكن قيام بايدن بخطوة تجاه إيران قد تهدد مرشحه والعدد من مرشحيه الآخرين ممن لم يحظوا بعد بالموافقات المطلوبة.
خلال أسبوعين تدخل طهران سباتها الربيعي الذي سينتهي مع بدء شهر رمضان والذي بدوره سيبدأ مع انطلاق المعركة الانتخابية الرئاسية في إيران. الواضح أن التسويات الصغرى، نضيف إليها مساعي الدول المهتمة أو التي تلعب دور قنوات خلفية، كل هذا يفيد، لكنه يفيد أكثر من يملك رفاهية الوقت، وهو الشيء الذي يبدو أن طهران وواشنطن تفتقداه بقوة. لذلك واستنادا إلى ما سلف من تجارب، لا يبدو أن حديثا نوويا تحت مظلة خمسة زائدا واحدا سيكون ممكنا بين طهران وواشنطن، تماما كما لم تكن عليه الحالة نهاية عهد محمود أحمدي نجاد قبل ثماني سنوات. الفرق بين ذلك الزمن واليوم أن أميركا وإيران كسرتا الجليد الذي بينهما بالتفاوض السري في عُمان، ثم لم يعد استثنائيًا بعد ذلك عندما دخلت حقبة حسن روحاني رؤية وزيري خارجية البلدين مجتمعين في بلد ثالث. لعل النجاح الذي أصاب تلك الحقبة وتلك المفاوضات كان بفضل إطار الحل الذي رسمه دبلوماسيي الطرفين سوية على تلك الطاولة السرية قبل الجلوس إلى الطاولة الكبرى، لذا قد يكون الحل الأنجع والأسرع لقاء ظريف وبلينكن ومن هناك قد تجد الأمور لها أكثر من طريق للحل.