اغتيال فخري زاده: التسوية تدخل الغيبوبة
لنرسم خارطة الأحداث خلال الأسبوع الذي سبق اغتيال العالم الإيراني البارز محسن فخري زاده في عملية تفجير وإطلاق رصاص وقعت بالقرب من بلدة آبسرد أسفل قمة جبل دماوند على الطريق إلى طهران. فخري زاده والذي تصدر اسمه عناوين الأخبار بعد لحظات من إعلان اغتياله تعرض في العام ٢٠٠٨ لمحاولة اغتيال جرى إفشالها كما يروي رئيس الهيئة الإيرانية للطاقة الذرية فريدون عباسي الذي أشار في مقابلة صحفية سابقا إلى أن فخري زاده كان هدفا لأعداء إيران لمدة ١٥عاما.
بالعودة إلى خارطة الأحداث، ارسال الولايات المتحدة إلى المنطقة طائرات من طراز بي ٥٢ في ٢١ تشرين الثاني نوفمبر، تلا ذلك ما جرى تسريبه عن لقاء ثلاثي جمع ولي العهد السعودي محمد بن سلمان ووزير الخارجية الأميركي مارك بومبيو إلى رئيس الوزراء الإسرائيلي بنجامين نتنياهو في مدينة نيوم المستحدثة شمالي المملكة، وهو ما نفته لاحقا السعودية. كذلك يمكن الإشارة هنا إلى عملية التبادل التي جرت والتي أطلق فيها سراح اكاديمية تتهمها إيران بالتجسس لصالح إسرائيل، وإطلاق سراح ثلاثة إيرانيين مسجونين في الخارج بتهمة محاولة اغتيال السفير الإسرائيلي في تايلند. وقبل يومين اعلان نتنياهو تأجيل زيارته إلى البحرين.
كل ما سبق قد يكون مرتبطا أو غير مرتبط باغتيال فخري زاده بشكل مباشر، لكن لا يمكن تجاهله في سياق الحدث الذي تحول إلى نقطة انطلاق في تحليل القادم الذي كان متجها في مسار ويبدو أنه دُفع أو سيدفع إلى مسار آخر. ولعل ما قاله الدبلوماسي الأميركي السابق، والباحث والكاتب الحالي، مارك فيتزباتريك على تويتر يستحق الوقوف عنده “السبب وراء اغتيال فخري زاده لم يكن لعرقلة وقوع حرب محتملة، إنما لإعاقة الدبلوماسية.” بالتوازي كانت نيويورك تايمز تنشر معلومات عن مصادر استخبارية لم تسمها تقول إن إسرائيل مسؤولة عن العملية.
لم يخرج نفي عن إسرائيل كما جرت العادة في مثل هذه الظروف، ولا البنتاغون علّق على سؤال حول الأمر، إلا أن الجلي بعد انتخاب جو بايدن رئيسا للولايات المتحدة أن محور حلفاء الرئيس دونالد ترامب، والذي يضم إسرائيل والسعودية والإمارات، بدأوا بالتعامل مع فرضية عودة الولايات المتحدة إلى الاتفاق النووي بتوجس شديد، وهو ما كان دفع نتنياهو لمراسلة بايدن مشددا عليه عدم العودة للاتفاق النووي، وبالتزامن حذر مسؤول أميركي استخباري سابق من أن “القوى الإقليمية ستتحرك بمفردها لتحييد الخطر الإيراني” في حال لم يكن هناك استراتيجية أميركية واضحة لمواجهة هذا الخطر، كما نشرت سي إن إن، والأكثر وضوحا كان كشف القناة الإسرائيلية الثالثة عشر عن أن واشنطن وتل أبيب تخططان لزيادة الضغط على إيران من خلال عمليات سرية وعقوبات اقتصادية خلال ما تبقى من فترة الرئيس ترامب بناء على تقدير موقف يقول إن إيران لن ترد عسكريا على أي استفزاز حتى رحيل ترامب. مع ذلك وبعد ساعات فقط على اغتيال فخري زاده تحركت حاملة الطائرات الأميركية نيميتز إلى المياه الخليجية، لمواكبة عملية الانسحاب الأميركي من العراق وأفغانستان وفق ما أوردت السي إن إن، لكن في المحصلة فإن هذه حركة لا يمكن فصلها عن التطورات الأخيرة، كون أن قرار الانسحاب جاء ضمن الترتيبات التي يسعى الرئيس الأميركي دونالد ترامب لإنجازها قبل مغادرته للبيت الأبيض.
في طهران، خلط اغتيال فخري زاده كل الأوراق، وليس بالضرورة أن يكون بدلها لكنه أعاد ترتيبها بما يسمح للمؤسسة الحاكمة بالتعامل مع المعطى الجديد بناء على ما فرضته طهران على نفسها في السابق والحاضر. وإذا كانت إيران قد افتتحت عامها بوقوع عملية اغتيال اللواء قاسم سليماني وما نتج عنها من قصف لقاعدة عين الأسد، فإن الاغتيال الأخير وبدون اعتراف واضح من قبل من يقف خلفها سيجعل الرد أكثر تعقيدا من ذلك الذي رأينها بعد اغتيال سليماني، وسيدفع إيران للتفكير أكثر في فرضيات الرد ومعادلة الردع المختلة أكثر من أي وقت مضى، والاتفاق النووي وآمال الخروج من نفق العقوبات الذي كان قد بدأ يظهر ضوء في آخره مع خسارة ترامب الانتخابات.
هذا على صعيد الاغتيال وانعكاساته المتعلقة بالخارج. ماذا عن الداخل؟
في الداخل أسئلة عديدة حول ما تبقى من فترة حكم الرئيس حسن روحاني والتي تنتهي في شهر حزيران يونيو القادم، هي أشهر البطة العرجاء في طهران تماما كما في واشنطن، إلا أن ترامب يبدو أكثر قدرة على التحرك والتحريك حتى في ظل التكبيل الدستوري الذي تفرضه المرحلة. روحاني الآن رئيس يخسر مع كل صباح عنصرا آخر من عناصر قوته، بل ويدفع أثمان خياراته التي تبناها النظام ككل، والتي سيحمل وزرها وحده عند انتهاء فترة رئاسته. كما أن هذا العام من رئاسته سيبقى يُذكر فيه أنه شهد اغتيال قاسم سليماني، وإسقاط الطائرة الأوكرانية عن طريق الخطأ، واغتيال محسن فخري زاده.
حتى أمس، كان روحاني يخاطب الأميركيين بالقول إنهم إذا ما تبرأوا من أفعال ترامب وعوضوا إيران عن خسائرها فبإمكانهم العودة إلى الاتفاق النووي، كما أنه سيكون بالإمكان العودة إلى ظروف ما قبل كانون الأول يناير ٢٠١٨، بالتالي قد يسمح هذا بفتح أبواب عديدة للتعاون بين البلدين. الآن ونحن نقرأ هذه المادة، لن يكون سهلا على أحد التعامل مع تداعيات الاغتيال وارتداداته وتوقع أي مستقبل سيكون للاتفاق النووي وللمنطقة وللعلاقات الإيرانية الأميركية وحتى أبعد من ذلك. إذا ثبت أن لأي من الدول الخليجية المناهضة لإيران دور في هذه العملية فذلك سيعني تحولا خطيرا يهدد الاستقرار الإقليمي على مدى غير قصير.
مسألة أخيرة مرتبطة بمجمل عمل البرنامج النووي الإيراني، حيث خرجت تحليلات تقول إن الاغتيال سيؤدي إلى تعطيله أو عرقلته، الذين ذهبوا إلى هذا التحليل قصدوا بُعدا عسكريا مُفترضاً بناء على ما أعلن عنه رئيس الوزراء الاسرائيلي نتنياهو سابقا عن قيادة فخري زاده لمشروعين ذات بعد عسكري مرتبطين بالبرنامج النووي. الشيء الرئيسي الذي رسخه الإيرانيون خلال سنوات مضت، وبناء على تجارب اغتيال العلماء هو تحويل التكنولوجيا إلى معرفة، أكان ذلك في النووي أو الصاروخي أو أي مجال آخر، بالتالي اغتيال الشخصيات مهما علت قد يؤثر في الدور الشخصي الذي قد تلعبه، لكنه لا يعيق الجانب التنفيذي بأي شكل كان، ومثال حسن طهراني مقدم في الصناعات الصاروخية لا يزال شاخصا.
طويت صفحة محسن فخري زاده باغتيال معقد على أطراف العاصفة في بلدة آب سرد. اسم المدينة يعني الماء البارد، والماء البارد عبارة تستخدم في إيران للإشارة إلى السجن انطلاقا من كون أحد أشهر السجون الإيرانية في زمن الشاه، سجن القصر، يحوي عين ماء باردة. “كم عاما شربت الماء البارد؟” مصطلح مخفف للسؤال عن عدد سنوات السجن لسجين سابق في إيران، وآب سرد المدينة، نجح منفذو عملية الاغتيال بالقرب منها في الهرب دون أن يشربوا نقطة ماء واحدة، ليثار السؤال بشكل كبير حول فعالية الأجهزة الأمنية وقدرتها على منع حصول عمليات من هذا النوع، في الليل أو وضح النهار، وفي القبض على المتورطين ومنع التعاون مع الأعداء والخصوم، والأهم القدرة على الرد من خلال عمليات أمنية باردة أو ساخنة، وفي ذات الوقت القدرة على تثبيت معادلات الردع وقواعد الاشتباك، وإلا فإن الخطر سيطال كل الرؤوس المرتبطة بالجمهورية الإسلامية، في الداخل أو في الخارج، فعدم إعطاء عواقب هكذا حدث أية أهمية لن يشعر أي من خصومها بضرورة ما يجب القلق منه.