النار ترسم معادلات الشمال السوري.. ما حدود التوجهات الروسية والتركية والإيرانية؟
إلى أين يتجه الموقف المحتدم في الشمال السوري؟
لا يزال الميدان العسكري محتدماً في شمال سوريا برغم الحديث عن قمة ثنائية ستجمع غداً الخميس بين الرئيس الروسي فلاديمير بوتين والرئيس التركي رجب طيب أردوغان، حيث يُجمع المتابعون لتطورات المشهد السوري خلال الأسابيع الماضية على أن هذه القمة ستشكل نقطة فاصلة في وجهة الصراع هناك، خصوصاً في ظل إصرار روسيا وتركيا، من خلال أعمالهما العسكرية المباشرة هناك، على رسم صورة الشمال السوري كلٌ حسب ما يواتي أهدافه وتطلعاتها. إيران من جهتها لم تعد بعيدة، أو غير معنية بهذا الصراع، لا سيما بعد أن أعلن المركز الاستشاري الإيراني في سوريا عن استهداف تركيا لقواته المشاركة في فتح طريق حلب- دمشق التركي، وإشارته إلى أن قواته ما زالت تلتزم بتعليمات القيادة القاضية بعدم استهداف الجنود الأتراك المتواجدين في النقاط التركية المحاصرة في ريفي حلب وإدلب برغم تواجدهم في مرمى نيران جنوده. تشابكات وحدود التوجهات الروسية والتركية وما بينهما الإيرانية في شمال سوريا يقرأها عدد من الباحثين في حديث لـ”جاده إيران”، وهذه أراءهم كما وردت/
- وسام متى- رئيس تحرير موقع “المسكوبية” المختص بالشؤون الروسية
تسعى روسيا إلى تسوية الوضع في إدلب وسوريا عموماً انطلاقاً من عنصرين أساسيين، الأول/ هو استكمال المهمة العسكرية المتمثلة بالحرب على الإرهاب، والثاني/ يتصل بالحل السياسي الشامل لسوريا. ومن المعروف أن إدلب تحولت إلى أخر البؤر للعناصر الإرهابية، وهذا الأمر له أثره المباشر على الأمن القومي الروسي بالنظر إلى وجود عدد كبير من الإرهابيين الوافدين من أسيا الوسطى والقوقاز. خلال العامين الماضيين، سعت روسيا لحل عقدة إدلب من خلال مسار أستانا، وقد أفضت تعقيدات الموقف بينها وبين تركيا، التي تحاول الاستثمار في إدلب استراتيجياً منذ بداية الأزمة السورية، إلى تفاهمات سوتشي، كما بات معروفاً، لكن المماطلة التركية في التنفيذ، دفعت إلى توافق بين الجانب الروسي والحكومة السورية على إطلاق العمليات العسكرية الاخيرة.
باعتقادي، وفي وضعية إدلب بالذات، تتمثل الأهداف الروسية في إيجاد حل للعقدة التي تمنعت تركيا عن حلها، وبالتالي فإن كل التحركات الجارية منذ أسابيع تندرج في إطار العمل على اعادة تفعيل مسار سوتشي المتفرع من مسار أستانا، بما يقود إلى تسوية تضمن الأهداف العامة في المقاربة الروسية للأزمة السورية، لأنه بات من الواضح أن مصالح روسيا وتركيا في سوريا تتقاطع في نقطة معينة، قبل أن تتناقض في نقطة معينة أخرى، وهذا الأمر يعود بالدرجة الأولى إلى أن قرار رحيل الأميركيين النهائي من سوريا بات قاب قوسين أو أدنى، وهو ما يستتبع تنافساً استراتيجياً حاداً على سوريا بين ثلاثة أطراف – روسيا، تركيا، وإيران – وهذه الأطراف الثلاثة تدرك تماماً أنّ أحداً منها لا يستطيع أن يُخرج الآخر، ما يجعل هذا التنافس قائماً على مجرّد محاولات لكسب مزيد من النقاط.
’’ الاستهداف السوري للرتل التركي كان عبارة عن درس للإتراك، حول خطورة تجاوز الخطوط الحمراء المتصلة بدعم الإرهابيين ‘‘
في هذا السياق، يمكن القول إن استهداف الرتل التركي لم يأت من فراغ. فطوال الأيام التي سبقته، ثبت أن الجيش التركي انتقل من توفير الدعم المعنوي للجماعات المسلحة في ليبيا وسوريا، إلى توفير الدعم العملاني، من خلال تغطية هجماتها بالمدفعية التي استهدفت الجيش السوري، في تحوّل أريد من خلاله تحقيق إنجاز تكتيكي يسمح باستعادة السيطرة على مناطق نجح الجيش السوري في تحريرها، بما في ذلك مدينة سراقب ذات البعد الاستراتيجي، والتي تشكل نقطة التقاء بين طريقي “إم-4″ و”إم-5” اللتين تحولتا إلى عقدة الصراع في الشمال السوري. بهذا المعنى كان الاستهداف عبارة عن درس للإتراك حول خطورة تجاوز الخطوط الحمراء المتصلة بدعم الإرهابيين، لا سيما بعدما اتضح أن الجنود الأتراك كانوا في نفس المكان مع إرهابيي “جبهة النصرة”، وفق الرواية الروسية، وطالما أن الجانب التركي لم يؤكد أنّ جنوده في تلك اللحظة كانوا يقاتلون الإرهابيين، فإنّ ذلك يعزز فرضية أنهم كانوا يتعاونون معهم.
برغم التناقضات المذكورة سلفاً، إلا أن الجانبين الروسي والتركي كلاهما لا يزال حريص على إبقاء العلاقات قائمة، فتركيا موقفها الاستراتيجي بالغ الصعوبة، فهي تعيش ما يشبه عزلة دولية (وهو أمر واضح في علاقاتها مع الولايات المتحدة وأوروبا)، ومعاركها الإقليمية باتت تتوزع على أكثر من جبهة (سوريا- ليبيا)، وتحتاج إلى حليف قوي مثل روسيا. أما روسيا فهي تحتاج إلى حليف مثل تركيا كجزء من استراتيجيتها الدولية، في ظل تنظيرات تشير إلى أن حسم تركيا تموضعها باتجاه روسيا من شأنه أن يؤسس لمعادلة جديدة لتصبح ضلعاً من أضلاع تحالف يضم روسيا، والصين وإيران، وربما دول أخرى مثل الهند. لذا يمكن افتراض أن روسيا وتركيا تعتبران، في هذه اللحظة، أن التعاون المثمر أمر حيوي لكليهما، علاوة على أن تكلفة الصراع العسكري بينهما ستكون باهظة، ما يدفعهما إلى تجنّب الذهاب في التصعيد إلى النهاية. لذلك، من المؤكد أن روسيا تميل نحو خيار التسوية السياسية وهي تسعى من خلال دبلوماسيتها الحرفية للمواءمة بين مصالحها الاستراتيجية العامة، ومصالحها في سوريا، ومصالح أردوغان. ومن المؤكد كذلك أن المحادثات بين بوتين واردوغان لن تكون سهلة، بالنظر إلى أن التعقيدات هائلة، ولكن في نهاية المطاف يُرجح الوصول إلى تسوية، قد لا تحسم بشكل كامل خلال اللقاء المرتقب نفسه، ولكن في كل الاحوال فإن هذا اللقاء قد يؤسس لمثل هذه التفاهمات.
’’ روسيا ستعمل على تجنب وقوع صدام بين إيران وتركيا لكونه يمس مباشرة مصلحتها في تكريس الاستقرار في سوريا ‘‘
على الصعيد الإيراني، فإن روسيا تتطلع إلى إيران ك”شريك استراتيجي” على المستوى الدولي، والتعبير هنا للرئيس فلاديمير بوتين خلال الزيارة التي قام بها لطهران بعيد توقيع الاتفاق النووي. ولكن كما هي الحال مع تركيا، فإن ثمة التقاء في المصالح الروسية-الايرانية في بعض الملفات، واختلافات كبيرة في بعض الملفات الكبرى. لقد سعت روسيا خلال الاعوام الماضية لتقارب مع إيران في بعض القضايا، بما في ذلك إدارة المصالح في بحر قزوين، فضلاً عن أن الموقف الروسي كان داعماً لإيران، بدرجة معقولة، في صراعها مع الغرب. من الواضح أن سوريا تشكل نقطة خلاف بين الطرفين، لا سيما أن الطموحات الإيرانية، التي تبدو في بعض جوانبها منصبة على جعل سوريا نقطة متقدمة في معارك إيران الإقليمية، تختلف عن الرؤية الروسية المتصلة بتكريس الاستقرار في الشرق الاوسط، ومع ذلك فإن فرص التقارب تبقى أكبر، خصوصاً اذا ما قارنا ذلك بالحالة التركية. كما أن روسيا ستعمل على تجنب وقوع صدام بين إيران وتركيا لكونه يمس مباشرة مصلحتها في تكريس الاستقرار في سوريا، وخصوصاً بعدما نجحت في جمعهما كشركاء ضامنين لمسار أستانا من جهة، ولكونه يقوض الشراكات الأوسع نطاقاً التي تسعى إليها روسيا على المستوى الدولي.
- د. حسن أحمديان- استاذ دراسات غرب أسيا (جامعة طهران)
من المؤكد أن إيران لا تريد مواجهة تركيا في سوريا، لكنها في الوقت ذاته تعتبر حضورها هناك احتلالاً، وقد وفقت طهران سابقاً بين هذين الأمرين في عملية أستانا، أما الأن فيبدو لها أن تركيا عدلت عن محاور اتفاقيات أستانا وسوتشي، وقد تبدى ذلك في استهداف تركيا لحلفاء إيران في إدلب، الأمر الذي تعده إيران تجاوزاً للخطوط الحمر، ما يدفعها للضغط على تركيا للعودة لما هو متفق عليه في أستانا وسوتشي، لأن استمرار تركيا في هذه الاستهدافات قد يُشعل الصراع بين الجانبين، كما توضح ذلك جلياً في البيان الصادر عن المركز الاستشاري الإيراني في سوريا. وهذا الخيار تحاول طهران قدر الإمكان عدم الانخراط به، لأنها في غنى عنه في المرحلة الحالية، كما أن ميزان القوى والأعباء الثقيلة التي ستأتي بها مواجهة تركيا لإيران وروسيا وحلفاءهما في إدلب كفيلة بردع أنقرة، لكن هناك احتمال أن تبقى هناك بعض المواجهات المحدودة، بيد أنها لن تتجه لمواجهة شاملة، وهذا ما تسعى له روسيا أيضاً، لأنه خيار يجر لخسائر كبيرة، فضلاً عن مضاعفاته الاقتصادية والتجارية.
’’ الأولوية الإيرانية اليوم المتمثلة في التركيز على القوات التركية والأميركية كقوات محتلة لسوريا، ستتجه بعد خروج القوات الأميركية وتحرير إدلب إلى مواجهة إسرائيل وهجماتها المتكررة على سوريا ‘‘
في هذا السياق أبرزت روسيا لتركيا ما يمكن أن تذهب إليه الأمور عندما ضربت الرتل التركي، عقاباً على استهداف الطائرات الروسية، وفي ذات الوقت توجه موسكو الدعوة لأنقرة لحل القضايا عبر الحوار، وبناءً عليه، فإن الخيار اليوم ليس في طهران أو موسكو أو دمشق، بل في أنقرة التي بيدها إما تصعيد المواجهة أو القبول بالحدود المضروبة على الدور التركي وفق مقررات أستانا، حيث ترى إيران أن عودة سيطرة الدولة السورية على إدلب جزء أخير ومحوري في إعادة وحدة التراب السوري تحت سيادة دمشق، كما أن الأهم من ذلك كله لدى طهران، فإن الأولوية الإيرانية اليوم المتمثلة في التركيز على القوات التركية والأميركية كقوات محتلة لسوريا، ستتجه بعد خروج القوات الأميركية وتحرير إدلب إلى مواجهة إسرائيل وهجماتها المتكررة على سوريا، وفي هذا الإطار فإن تحرير إدلب بالنسبة لإيران سيمكن إيران من تفريغ جزء هام من قدراتها وحلفاءها العسكريين لردع إسرائيل في سوريا وخارجها.
- د. علي باكير- باحث في الشأن التركي
إن الموقف التركي من إدلب كان واضحاً منذ البداية، لجهة الحفاظ على الستاتيكو القام هناك، والمتمثل في ضرورة اتخاذ روسيا الإجراءات المناسبة لمنع إطلاق الأسد لأي عمليات عسكرية من شأنها أن تؤدي إلى موجات من النازحين واللاجئين باتجاه الأراضي التركية وفق ما نص عليه اتفاق سوتشي. أما وقد تجاوز نظام الأسد هذا الأمر، فقد بات لازما من جهة تركيا إعادته إلى الخطوط الخلفية وفي هذا الإطار، فان اتفاق سوتشي هو مرجعية التفاوض الخارجي الأن بين موسكو وأنقرة ما لم يتفق الطرفان على اتفاق أخر. فروسيا تريد الدفاع عن نظام الأسد، لكنها لا تريد في نفس الوقت أن تصطدم مع تركيا من أجل الأسد. كذلك الأمر بالنسبة إلى الجانب التركي، فهو يركّز على أنّ معركته مع نظام الأسد وليس مع روسيا، وان على الأخيرة أن تبتعد عن طريقه. كما أن الصدام ليس من مصلحة الجانبين، إلى جانب أن الطرفين الروسي والتركي لا يريدان الاصطدام ببعضهما البعض.
’’ أنقرة حريصة على أن ترسم حدود اللعبة وخطوطها الحمراء في وجه إيران وغيرها من اللاعبين فيما يتعلق بأمنها ومصالحها، لذلك استهدفت أحد المقرات التي يتواجد فيها عدد كبير من مقاتلي حزب الله و”الميليشيات الشيعية” الموالية للحرس الثوري الإيراني ‘‘
أما الطرف الإيراني فهو لاعب ثانوي فيما يجري الأن بين روسيا وتركيا. وقد دأب الطرفان على إعطائه أهمية أقل أو حتى إهماله في الكثير من الحالات عندما يتعلق الأمر بالخلاف مباشرة حول كيفية التعاطي مع نظام الأسد أو تطبيق الاتفاقات التي يتم التوصل إليها. كما أن أنقرة حريصة على أن ترسم حدود اللعبة وخطوطها الحمراء في وجه إيران وغيرها من اللاعبين فيما يتعلق بأمنها ومصالحها، لذلك استهدفت أحد المقرات التي يتواجد فيها عدد كبير من مقاتلي حزب الله والميليشيات الشيعية الموالية للحرس الثوري الإيراني، ما أدى لمقتل وجرح عدد كبير منهم، وبرغم من قسوة هذه الضربة إلا أنها لم تؤد إلى قطع التواصل مع إيران، فهؤلاء من وجهة نظر تركيا مسؤولين لأنهم يدعمون عمليات نظام الأسد ضد المدنيين بدعوى محاربة الإرهاب.