اتفق الكثير من النقاد في إيران على أهمية رواية “عيناها”، المنشورة عام 1952، للأديب الإيراني المعاصر بزرك علوي (1904-1997)، إذ تؤكد المبيعات العالية لهذه الرواية بعد 66 عامًا من نشرها، على ما لها من خصوصيةٍ في الأدب الإيراني المعاصر. فهي من جهةٍ نموذجٌ جيدٌ لهذا النوع الأدبي الذي لم يكن معروفاً في إيران قبل الثورة المشروطة ولم يحقق نجاحاً باهراً لاحقاً، ومن جهةٍ أخرى يحيكُ علوي روايته بلُحمة السياسة وسُدى الحب، منطلقاً من مكونات “البيئة الطهرانية” في زمانه لرسم صورةٍ واقعيةٍ للتيارات والطبقات الاجتماعية والأحداث المتسارعة آنذاك، والتي رسمت لاحقاً ملامح إيران اليوم.
يتناوب راويان في “عيناها” على نقل أحداثها، الأول هو الراوي العارف بكل شيء “ناظم المدرسة” الذي طرح السؤال عن سر ورمز لوحةٍ تحمل اسم الرواية للرسام “ماكان” البطل الثاني، ثم تنتقل مهمة سرد الرواية للبطلة وهي شخصية “فرنكيس”. وهنا تجدر الإشارة إلى قدرة الكاتب بزرك علوي على الكتابة بلسان امرأةٍ في قصةِ حبٍ أتقن فيها التنقل بين إحساس الشابة العاشقة والمُضحيّة، وبين السيدة الأربعينية الخاسرة لأكثر معاركها في الحياة.
تتقاطع شخصية السيدة فرنكيس في الرواية مع شخصية الكاتب بزرك علوي في الحقيقة، فكلاهما نشأ في عائلةٍ مُرفهةٍ مادياً وتلقيّا تعليماً في أوروبا، كذلك قدّما تضحياتٍ جسامٍ في سبيل حركة النضال اليساري في إيران من هذه التقاطعات يمكن القول أن علوي اقتبس من حياته الشخصية في هذه الرواية مبدعاً في إضافاته وتلميحاته.
خط القصة يبدأ متأخراً قليلاً، فعلوي أضاع بعض الوقت قبل الولوج في أحداث الرواية؛ لذلك جاءت الحبكة ضعيفةً في الثلث الأول من الراوية لتصبح أقوى وأفضل لاحقاً. يلتقي الناظم بفرنكيس ويكتشف أنها صاحبة العينين المرسومتين في لوحة الأستاذ المتوفى سابقاً، ويتمكن من إقناعها برواية القسم الخفي من حياة الاستاذ ماكان، فتروي له تفاصيل حياتها لتصل إلى مرحلةٍ تُقربها من ماكان والتضحيات التي قدمتها من أجله وذهبت سدى.
نضالُ أبناء الأغنياء غير مقنع
لا يمكن فهم رواية “عيناها” دون قراءةٍ جيدةٍ لحياة الروائي بزرك علوي، فهو أحد مؤسسي حزب توده اليساري في إيران، وقد ناضل من أجله مبتعداً حتى عن الأدب في كثيرٍ من مراحل حياته، وفي النهاية عاد ليرحل عن إيران بخسائر شخصيةٍ كبيرةٍ، وأظهر لاحقاً أسفه على ما تعرض له أثناء تلك المرحلة، ولاحقاً من شركائه ورفاقه وهؤلاء الذين ضحى من أجلهم.
كما علوي كذلك هي البطلة فرنكيس، تعيش مرفهة وتحصل على ما تريد؛ لكنها تحب الرسام ماكان وترغب في البداية بجذبه وكسر عنفوانه كرجل أمامها، لكنه لا يعيرها أدنى اهتمامٍ كامرأةٍ جميلةٍ، فتصمم هي على “ليّ ذراع قلبه” بما يحب، فتتحول إلى مناضلةٍ تنخرٍط في صفوف حركته، فيرحب بذلك ويوكل لها المهام. تعتقد أنها ستحصل على ما تريد، لكن الحقيقة التي يراها القارئ ويرغب في أن يصرخ بها وسط الراوية هي “كفي عن ذلك يا فرنكيس فأنت أداة لهذا المناضل لا أكثر”. بوضوحٍ يحرك علوي القارئ ضد المناضل، فنتعاطف مع السيدة ابنة الطبقة الثرية ونرى كيف تُظلم من قبل هؤلاء المناضلين دون أن يظهروا احتراماً لها أو ثقةً قليلةً بها.
المرأة والحب
يتداعى للذهن عند قراءة رواية “عيناها” قضية الاختلاف بين أسلوبي الرجل والمرأة في الحب، ينجح علوي في تصوير هذا الاختلاف، وكيف تفكر المرأة وما تقدمه وما تنتظره في الحب، في المقابل ما يفكر به الرجل وبما يريد من المرأة في الحب. هذا التصوير الواقعي لم يحظَ بإعجاب الكثير من النقاد، كالناقد الشهير حسين باينده الذي اعتبر رؤية علوي للمرأة سلبيةً كبقية أقرانه في إيران، لاسيما حين يصور أنانيّتها بتملّك المناضل، فيما يجيب هو أنه لا يرغب بالسعادة الفردية بل يبحث عن النوع الشعبي منها.
في الحقيقة صوّر الكاتب الواقعي بزرك علوي جيداً، ما يمكن لمناضلٍ أن يفعله أمام سيدةٍ حسناء غنية، فهو استغل مالها وجمالها وجسدها أيضاً، طبعاً لصالح القضية، أما هي كعاشقةٍ فقدمت عُمرها لأجله لتنقذه من الموت المحتم في السجون وعليه أصبحت زوجة العقيد “آرام” الذي يرمز أيضاً إلى طبقة مستغلي السلطة، بجمعه للأموال وهروبه لاحقاً إلى أوروبا.
ماكان يموت بعد ثلاث سنوات تاركاً لوحته “عيناها”، وفرنكيس تعيش بعده على أحلام تلك الأيام وغصة كبيرةٍ تُحركها فيها هذه اللوحة التي تُصور عيناها بعيداً عن الحقيقة، فالرسام المناضل لم يفهم الشابة العاشقة أبداً فرسم عيناها كأنهما فخٌ له.
رمزية الشخصيات في رواية “عيناها” ذكيةُ جداً فهي بقدر بساطتها معقدة أيضاً، أما واقعية الأحداث والتواريخ التي مرت بها طهران فهي أيضاً قيمةٌ مضافة للرواية المكتوبة بقلم أحد المناضلين والأدباء المميزين في القرن العشرين. من دون شكٍ فإن رواية “عيناها” من أفضل الأعمال الأدبية المعاصرة في إيران ولا بد لقراءتها من المرور على تاريخ حقبةٍ مميزةٍ من نضالِ اليساريين في إيران وخسائرهم لاحقاً.