أحمد جنتي.. القبة الحديدية للانتخابات في إيران
سواء كان خارج إيران ممثلا للقائد الأعلى في دعم مسلمي البوسنة والهرسك، أو داخلها مسؤولا عن مؤسسة من المؤسسات الدستورية، أينما يبرز اسم أحمد جنتي تبرز معه عناوين ثلاثة: الالتزام بالتيار الأصولي، وانتقاد التيار الإصلاحي، ورفض ما يأتي من الغرب. رغم اقتراب عمره من القرن (مولود علم 1927)، فإنّه ما زال ناشطا في المشهد السياسي الإيراني، بخطابه، أو قراراته حيث تكون له كلمة فاصلة عبر إدارته لمؤسسة ذات تأثير كبير في المشهد السياسي الإيراني. من هو أحمد جنتي الذي بقي من أبرز الوجوه المتشدّدة في التيار الأصولي، رغم امتحانات سياسية قاسية تعرّض لها حتى في أولاده؟
مع اقتراب الانتخابات الرئاسية في إيران عقب وفاة الرئيس إبراهيم رئيسي بعد حادثة سقوط الطائرة التي كانت تقله، وعلى أعتاب إعلان مجلس صيانة الدستور أسماء السياسيين الذين قُبلت طلبات ترشيحهم للانتخابات، عاد اسم أمين المجلس أحمد جنتي إلى الواجهة. ويعدّ جنتي عنصرًا حيويًا في تشكيل القيادة السياسية في إيران، ومن أكثر الشخصيات تأثيرًا بعد القائد الأعلى علي خامنئي، إذ يشغل منصبه منذ فترة طويلة ويعتبر من أطول السياسيين بقاءً في منصبه.
ومنذ إعلان بدء قبول طلبات الترشيح، عاد النقاش في إيران حول دور المجلس، وسياسية قبول المرشحين من عدمه، ما دفع الرئيس السابق محمد خاتمي للتلويح بمقاطعة الانتخابات في حال رفض مرشحي جبهة الإصلاح. في المقابل، وأمام الضغط الذي شكّلته الجبهة قبيل الترشيح وبعده، وقف جنتي “سدًا منيعًا” أمام كل التصريحات، مشددًا على “أننا اخترنا طريقًا مباشرًا في موضوع تأييد الأهليات وسنستمر فيه”، قاطعًا الطريق أمام الضغوط لقبول بعض الأسماء.
النشأة والثورة
في قرية لادان غربي مدينة أصفهان، ولد أحمد جنتي عام 1927 لعائلة متديّنة وفقيرة. تلقى تعليمه الابتدائي في أصفهان، ثم أقبل سريعًا على العلوم الدينية في المدرسة الفيضية بمدينة قم. وخلافًا لكثيرين من أبناء جيله من الحوزويين، دعم جنتي دراسته الدينية باكتساب اللغة الانكليزية ودراسة الأدب العربي، فاستثمر لغته العربية في ترجمة بعض الكتب منها إلى الفارسية وأبرزها، “إثبات الهداة، وتحف العقول”.
كان عمره 21 عاما عندما تزوّج من صديقة مظاهري التي أنجبت له علي وحسن وحسين ومحمد، اثنان منهما لم يكونا على صورته في السياسة بعد انتصار الثورة. وفي قم، حيث كان جنتي عضوًا في مجمع مدرسي الحوزة، اعتقلته قوات الأمن قبل انتصار الثورة الإسلامية عدة مرات وأبعدته عن المدينة، لمشاركته في التظاهرات الداعية لإسقاط نظام الشاه.
مع انتصار الثورة عام 1979 انتهت مرحلة السجون والتظاهرات بالنسبة إلى جنتي، لتبدأ معها مرحلة العمل السياسي في دولة الجمهورية الإسلامية. كان جنتي من الموثوقين بالنسبة للإمام الخميني، الذي عيّنه قاضيًا لمحكمة الثورة.
ومع تأسيس مجلس صيانة الدستور عام 1980، شغل جنتي عضوية المجلس بصفته أحد فقهاء الحوزة العملية في قم، وهو المجلس الذي حافظ جنتي على حضوره فيه حتى اليوم إذ يشغل منصب الأمانة فيه منذ عام 1993. قبل ذلك بعام، عيّنه القائد الأعلى علي خامنئي إمامًا مؤقتًا لصلاة الجمعة في طهران، حيث كان أبرز المنابر التي يطلق منها جنتي مواقفه السياسية. مواقف بدا الرجل صلبًا فيها، بمعزل عن حجم الموافقة أو الاعتراض عليها ضمن المشهد السياسي الإيراني.ولعلّ الرجل استمدّ إصراره على مواقفه من تجاوزه لحظات سياسية قاسية في عائلته، كان أبرزها مقتل ابنه محمد حسين (31 عامًا) وزوجة ابنه، فاطمه سروری، في مواجهة مسلحة مع الحرس الثوري الإيراني عام 1982، إذ انتميا لمنظمة “مجاهدي خلق” المعارضة.
عداوة الغرب
لا يختلف اثنان على أن آية الله جنتي من أبرز وجوه التيار المعادي للغرب في إيران. لم يعدّل في رفضه الانفتاح على أميركا أو أوروبا، بمعزل عن مختلف المراحل التي مرت بها علاقات الغرب بإيران. هكذا بقيت مواقفه كما هي منذ انتصار الثورة حتى اليوم. وقد كان لبروزها ما يوجبه، مع تصاعد حضور التيار الداعم للانفتاح على الغرب، ووصول وجوه إصلاحية بارزة إلى سدّة الحكم في إيران، ما جعله “كابوسًا” لجبهة الإصلاح في البلاد.
لطالما وصف جنتي أميركا بالدولة “الملعونة والكاذبة والمراوغة والمجرمة والإرهابية” ولا سيما بعد انسحابها من الاتفاق النووي في الثامن من أيار/ مايو 2018، وبعد اغتيالها القائد السابق لقوة القدس في حرس الثورة اللواء قاسم سليماني مطلع عام 2020.
ويعدّ جنتي من أبرز الرافضين لمعاهدة مجموعة العمل المالي الدولية “FATF”، إذ أكّد خلال أحد خطبه يوم الجمعة بالعاصمة طهران عام 2016، أن المعاهدة “تهدف إلى وضع جميع الوثائق المالية للمعاملات المصرفية الإيرانية تحت إشراف الغرب بحجة محاربة ظاهرة غسيل الأموال في العالم، وعلى البرلمان الإيراني رفض توقيعها”. ولم يخفِ شكوكه في الخطبة نفسها، بأن “الغرب يهدف إلى أن نلغي بأيدينا المؤسسات الثورية، وخدمات الحرس الثوري ومقر خاتم الأنبياء للدفاع الجوي، وتعطيل جميع الأعمال التي تعارض مصالح الغرب”.
كان هذا من أوضح المواقف على منبر الجمعة، قبل أن يقبل خامنئي استقالة جنتي من هذا المنصب في آذار/ مارس 2018، بعد 25 عامًا قضاها إمامًا لجمعة طهران. لكن جنتي ومن مواقعه الأخرى في النظام السياسي، لم يتوقف عن إطلاق المواقف السياسية الرافضة للغرب.
ومع اندلاع احتجاجات البنزين التي تخللتها أعمال عنف في تشرين الثاني/ نوفمبر 2019، اتهم جنتي جهات خارجية بالوقوف وراء الأحداث قائلًا: “إن دعم الساسة الأميركيين والعائلة الملكية البهلوية وجماعة مجاهدي خلق للاضطرابات وتحريضهم على عمليات العنف، يظهر أن هذه العمليات قد تم التخطيط لها من قبل، وأنهم كانوا يتربصون لمثل هذه الفرصة لتمرير مآربهم الخبيثة، لكن الوعي الشعبي أدى الى التمييز بين الاحتجاج السلمي وأعمال الشغب، واخفاق مؤامرات الأعداء”.
“القبة الحديدية” بوجه المرشحين
الانقسامات في عائلة جنتي لم تنتهِ مع مقتل ابنه حسين وزوجته، بل استمرت مع انتماء نجله الأكبر علي إلى جبهة الإصلاح، حيث حصل على مناصب دبلوماسية وسياسية عدّة، كان أبرزها توليه منصب سفير إيران في الكويت، ووزير الثقافة والإرشاد في حكومة روحاني عام 2013 التي كانت تُوصف بالمعتدلة.
برزت حدّة جنتي ضد التيار الإصلاحي بشكل واضح، عقب ما يعرف بالحركة الخضراء عام 2009، حيث قال في إحدى خطب الجمعة في آب/ أغسطس 2010 في قم: “لقد حصلت على دليل يثبت أن أميركا منحت مليار دولار عن طريق السعودية لقادة الفتنة، وأنها ونيابة عن أميركا أبلغتهم أنها مستعدة لدفع خمسين مليار دولار في حال تمكنهم من القضاء على النظام، ولكن الله وضع حدًا لهذه الفتنة على أيدي عباده الصالحين”. قوبل كلامه آنذاك بردً حاد من شخصيات بارزة في التيار الإصلاحي. فقد طالب زعيما تلك التحركات مير حسين موسوي ومهدي كروبي في رسالة إلى المقلدين الشيعة، أن يقدم جنتي وثيقة تثبت إفادته، وقالوا إن “شيخوخته سبب إعاقته العقلية”.
مع إتمامه عقده التاسع، انتخب آية الله جنتي في 24 أيار/ مايو 2016، رئيسًا لمجلس خبراء القيادة. حيث استمر في هذا المنصب إلى نهاية دورة المجلس عام 2024 قبل أن يتسلم الرئاسة رجل الدين موحد كرماني في 21 أيار/ مايو 2024 نتيجة عملية اقتراع داخلية بين الأعضاء الذين لم يكن جنتي أحدهم بعد امتناعه عن الترشح لانتخابات هذا المجلس التي جرت في شباط/ فبراير 2024.
رئاسة جنتي لمجلس خبراء القيادة خلال الفترة الماضية تزامنًا مع موقعه كأمين لمجلس صيانة الدستور، أثار سخط الإصلاحيين، الذين اعتبر العديد منهم أنذاك هذا الأمر جزء من “اتجاه تعزيز حضور التيار المتشدّد في هيئات ومؤسسات الدولة، ومؤشر على صعوبة الانفتاح على الغرب والتفاوض مع واشنطن خلال السنوات المقبلة”.
نكسة الإصلاحيين والمعتدلين الكبرى مع جنتي كانت مطلع عام 2020، حيث رفض مجلس صيانة الدستور منح أهلية الترشح لأكثر من 50% من المتقدمين للترشح في الانتخابات البرلمانية، التي جرت في 21 شباط/ فبراير 2020، وكان غالبيتهم أنذاك نوابًا في الدورة السابقة وينتمون للتيارين الإصلاحي والمعتدل، وجاء تفسير المنع لهؤلاء بـ “التورط في ملفات فساد مالي وأخلاقي وعدم الإيمان بالنظام الحاكم”. هذا القرار دفع بالرئيس السابق حسن روحاني حينها إلى اتهام المجلس بـ”هندسة الانتخابات بعد تصفية الشخصيات الإصلاحية”. لم يطل الزمن ليلحق بروحاني نفسه ذات مصير الذين دافع عنهم أمام مجلس صيانة الدستور، فالأخير رفض منح الرئيس السابق أهلية الترشح لانتخابات مجلس خبراء القيادة عام 2024.
ما بين هاتين الدورتين الانتخابيتين، برز كذلك سخط هذا الفريق من جنتي عندما رفض منح الأهلية لعدد من المتقدمين للترشح في الانتخابات الرئاسية لعام ٢٠٢١، وتحديدا علي لاريجاني.
على هذا النحو من الخصومة المريرة إذا، تبدو العلاقة بين آية الله جنتي، أحد أبرز الوجوه الأصولية المتشدّدة، مع التيار الإصلاحي بمختلف تلاوينه السياسية؛ وهو بذلك حجز لنفسه مكانةً في المشهد السياسي الإيراني لعقود، رجل دين وسياسة مثيرًا للجدل في كثير من مفاصل تاريخ الجمهورية الإسلامية.
لمتابعة تغطية “جاده إيران” للانتخابات الرئاسية الإيرانية تحت عنوان “إيران.. الصندوق بعد المروحية” إضغط هنا