الجادّة: طريقٌ في اتجاهين
قراءة طويلة2 يوليو 2024 12:36
للمشاركة:

انقسامات وتكتلات غير تقليدية.. الانتخابات تظهر تشكّل شرائح جديدة في المجتمع الإيراني

بعيدًا عن المسوغات التي دفعت إيران إلى تغيير مسار طائرتها والعودة لمصالحة حكومة الإصلاحي محمد خاتمي وإتاحة المجال لوزير صحته مسعود بزشكيان لدخول المضمار الانتخابي، إلا أن هذه النقلة كانت ناجحة بالحد الأدنى وربما تعيد ترتيب البيت الداخلي الايراني من جديد.

بالتأكيد، الجزم بنتيجة الانتخابات أمر غير ممكن، فهناك جولة ثانية ومعركة وجودية طاحنة أخرى تنتظر المعسكرين التقليديين في إيران؛ لكن هذه الانتخابات حققت هدفها بعيدًا عن النتيجة، حيث أعادت نبض الشارع السياسي الإيراني بضخ دماء الإصلاحيين وكسر العزلة عنهم ولو بخجل.

لا يراهن المراقبون على هذه العودة، ولا توجد قراءات إيجابية حتى الآن، لكن في الحد الأدنى عاد الصوت ليكون مسموعا في شارع لا يبالي.

قرأ النظام الإيراني نتائج معاركه الأخيرة مع الجيل الجديد في حركة مهسا أميني وسابقا في احتجاجات البنزين، بالأرقام مع تراجع المشاركة بالانتخابات الأخيرة للبرلمان، حيث وصلت إلى 42% تقريبًا، لكن يبدو أن ما خفي أعظم. اليوم وبعد أشهر من انتخابات المجلس، ومع وجود تحشيد قوي جدًا من أنصار المرشحين الثلاثة للانتخابات الرئاسية الاستثنائية، سعيد جليلي ومسعود بزشكيان ومحمد باقر قاليباف، وصلت نسبة المشاركة المعلنة إلى 40%. ربما لا يمكن وصف هذه النسبة بالسيئة جدًا، لكن مع وجود كل هذا التحشيد كان من المتوقع أن يعود الحس السياسي للشارع الإيراني بقوة أكبر.

ربما يعتقد البعض أن هذه النسبة ليست منخفضة جداً مقارنة ببقية الدول، لكن بالنسبة لإيران التي سجلت سابقًا نسب مشاركة عالية مثل 84% في الانتخابات الرئاسية 2009 ونسبة 73.7% في الانتخابات الرئاسية 2017، بالطبع نسبة 40% هي تراجع وربما خسارة للشارع الإيراني. لكن لماذا؟

الأسباب التي تدفع الناخب الايراني للعزوف عن المشاركة في الانتخابات عديدة؛ قسم من المجتمع الإيراني يعتقد أن السلطة التنفيذية لا تستطيع تحقيق مطالبها، وقسم آخر يعتقد أنه حتى ولو كانت هذه السلطة قادرة على التغيير وشخص الرئيس عازم على ذلك، فهناك من يعيق عمله، وبالتالي لن يتمكن من تحقيق مطالبهم. أما الشريحة الأكبر فهي بالفعل تشكلت مؤخرًا نتيجة أحداث سياسية متعاقبة أغرقت المواطن الإيراني بهموم اقتصادية وأخرى اجتماعية جعلته يفقد الأمل في التغيير.

بالطبع هنا يجب الانتباه إلى أن كل الشارع الإيراني يتعرض اليوم إلى مد وجزر تحت وطأة الأوضاع الاقتصادية والسياسية في البلاد، والأمر لا ينحصر بالشارع الإصلاحي أبدًا، والأرقام في هذه الانتخابات تعكس ذلك بوضوح، فالشارع الأصولي قدم في الانتخابات الرئاسية السابقة 2021 تقريباً 18 مليون صوت لرئيسي فيما قدم هذه الدورة لكلا المرشحيين قاليباف وجليلي 13 مليون صوت فقط.

فزاعة التطرف

يدرك الداخل الإيراني أن المرشح سعيد جليلي هو فزاعة بامتياز تخيف الشارع الشعبي. فالتشدد الموصوف به جليلي وأنصاره سينعكس على الحرية الشخصية للمواطنين بشكل مباشر، إضافة إلى أن جليلي يحمل برنامجًا اقتصاديًا مغلقًا، دون رؤية حقيقة للتواصل مع العالم، مما يعني المزيد من الانغلاق والمزيد من انخفاض قيمة العملة والتضخم.

في الجولة الأولى من الانتخابات قاد أنصار جليلي حملة دعائية جيدة له، لكن الحملة الدعائية للجولة الثانية ستكون أقوى بكثير مع وقوف كل الصف الأصولي خلفه. هذه الحملة تقوم على مخاطبة الأرياف والطبقات الأقل دخلًا، وتحذر المواطنين من وصول بزشكيان بوصفه حكومة روحاني الثالثة، مما يعني “إهمال الأرياف والعمال” وفق تعبيرهم.

في المقابل، يخاطب بزشكيان وحليفه الانتخابي وزير الخارجية الأسبق محمد جواد ظريف الناخب بلغة شبيهة أيضًا. فالتخويف من جليلي وبرنامجه المغلق وإعادة إيران إلى الوراء وقمع الحريات الشخصية هي أهم شعارات الحملة الدعائية لبزشكيان في الجولة الثانية.

بين المقاطعة والخوف

هذه الثنائية القطبية من التخويف المتبادل قد تشجع الشارع الإيراني على المشاركة في الانتخابات أكثر من الجولة الأولى، ولولا هذه المعادلة لكانت نسبة المشاركة في الجولة الانتخابية الأولى ضعيفة جدًا وهذا ما لا يريده النظام. لذا ما تركز عليه القوى المعارضة للنظام الايراني هو مقاطعة الانتخابات بوصفها استفتاء على استمرار النظام، لذا تعمل على تشويه صورة بزشكيان والتذكير بأنه جزء من هذا النظام وليس من صفوف الشعب. لكن هل نجحت المقاطعة في الجولة الأولى؟

وفق لغة الأرقام، فإن حملة مقاطعة الانتخابات الايرانية حققت تقدمًا ملموسًا في تحريك الشارع، لكن سلوكيات هذه المقاطعة من تخوين وهجمات على الناخبين خارج إيران أثبتت فقرها للغة خطاب جيدة وصادقة تجذب الشارع.

هناك مطالب حقيقية واضحة لدى الشارع الإيراني تستغلها كل الأطراف السياسية داخل وخارج إيران بعيداً عن الإصغاء الحقيقي لها. الانتخابات الإيرانية أثبتت أن النظام بكل أطيافه يدرك هذه المطالبات وعلى علم جيد بها. ومن هنا نرى كيف يوظف المرشحون هذه المطالب في حملاتهم الدعائية، حيث يرمي كل مرشح تهمة التضييق على الحريات الاجتماعية والفردية على الطرف الآخر، إضافة لتهم الأزمة الاقتصادية.

إعادة توزيع الأوراق في سلة الأصوليين

على عكس ما تروج له الحملة الانتخابية للمرشح بزشكيان عن خطابه للجيل الجديد، فإن هذا المرشح يدرك جيداً أن جيل “z” لا يقف في صفوف الناخبين ومع المقاطعة، ولا يرى في المرشحين أي تمثيل له. لذلك، يخاطب بزشكيان الناخب الأصولي ويستقطبه بحملته إلى جانب بقايا الشارع الإصلاحي. فتراجع أصوات الأصوليين لصالح المرشحين جليلي وقاليباف لا يعني عزوفهم عن المشاركة، بل يعني إعادة توزيع الأصوات في سلة الشارع الأصولي.

هذا الشارع يراقب منذ سنوات المعارك بين النظام والمعارضة وبين الأصوليين والإصلاحيين من جهة، وبين أبناء التيار الأصولي من متطرفين وأصوليين جدد من جهة أخرى. هذا الشارع مؤثر في الانتخابات لأنه غير مقاطع. وبالتالي فإن الانتخابات البرلمانية الأخيرة التي شهدتها كانت حصرية لأبناء هذا التيار وهم من انتخبوا عمليًا البرلمان الذي طغى عليه اللون المتطرف. ولأن هذا التيار يدرك جيداً أن التطرف لن يخدم النظام وبعبارة أخرى يهدد بقاءه، ستكون له حسابات أخرى في الجولة الثانية من الانتخابات الرئاسية.

المرشح سعيد جليلي يدرك بدوره حسابات التيار الأصولي ولذا يتوجه في خطابه بوضوح نحو طبقة الكادحين وأبناء الريف بعيداً عن التقسيمات التقليدية، لكن هل يقنع جليلي وخطابه أبناء الطبقة المعدومة والمهمشة؟

لن تحمل نتائج الانتخابات الرئاسية في جولتها الثانية مفاجآت، لكنها ستعكس قرار الجمهورية الإسلامية في المضي نحو مواجهة حادة مع الغرب أو تهدئة الأوضاع إقليميًا.

جاده ايران تلغرام
للمشاركة: