الجادّة: طريقٌ في اتجاهين
قراءة طويلة31 ديسمبر 2023 17:18
للمشاركة:

2023: عام الخيارات الواضحة… غزة كشفت العالم

عام 2023: بانوراما إقليمية

الفقراء هزّوا العالم هذه المرة أيضًا. فعلوا ما يراه الأغنياء حكرًا عليهم. القوة. فعلوها مرةً جديدة. عبروا الجغرافيا التي حاصرتهم وقاتلوا في أرض عدوّهم. في الكتابة عن عام 2023 قبل انقضاء يومه الأخير مخاطرة كبيرة. كان استثنائيًا. ليس في ذلك مبالغة. كأنّه لحظة انفجار كلّ شيء تراكم منذ عقود. يسري ذلك على السياسة كما الطبيعة، وقد كان بين الكانونين دور كبير في إظهار العلاقة العضوية بينهما. كانت الزلازل والفيضانات جيولوجيةً في لحظات حدوثها، ثم تحوّلت سريعًا إلى ظواهر طبيعية بمفاعيل سياسية. وحدهم المقاومون الفلسطينيون خلطوا الأوصاف ببعضها، ورفعوا الأصبع الوسطى في وجه العالم. أصبع مثخن بمظلومية فاض غضبه، حيث ارتأوا أن يسمّوه “طوفان الأقصى”، وقد أصابوا في التسمية. كان طوفانًا سيُغرقُ الجميع في نتائجه، ولا فارق هنا بين أن نقول 2023 أو 2024 أو ما بعدها.

يمكنُ الرجوع إلى صفحات التاريخ لعرض قصصٍ مشابهة في الأثر لما جرى في الطوفان وبعده، لكنّ الأكثر منطقيّةً، على الأرجح، هو التعامل مع السابع من أكتوبر نفسه كلحظة مرجعيّةٍ في التاريخ السياسي لهذا الاقليم، كلحظة السويس مثلا، ولحظة تحرير جنوب لبنان، ولحظة الربيع العربي ومعاركه. لحظة موثّقة مباشرة على الهواء وفي المنصّات الافتراضية. لحظة رآها العالم في لحظتها. لحظة حقيقية تصح أداةً لتسمية 2023 بعام الخيارات الواضحة. ولذلك، كان كل طرف مرتاحا في ارتداده إلى عميق أفكاره ومشاريعه حتى وإن كانت الظروف السياسية والميدانية صعبةً على الجميع. الغرب السياسي مع إسرائيل ظالمة أو ظالمة. الصين وروسيا سعيدتان بالغرق الأميركي الجديد في رمال حروب المنطقة. إيران داخل الحرب بوضوح من دون أن تشارك بالقتال المباشر فيها. تختبر قوة حلفاءها ووحدة ساحاتهم. تسجّل أين نجحوا وأين أخفقوا، ومن كان وفيًا لحلفها ومن فضّل النقاش في لحظة لا تحتمله. السعودية تكرّس تصوّراتها الجديدة: تسويات واقتصاد، وما من شيءٍ مقدّس كالمصالح. قطر تكرّس دور الوساطة ونفوذ الإعلام. تركيا تلعب مع الجميع ضد الجميع في لحظةٍ لا ينفعُ المتحاربين فيها سوى الإجراء العمليّ. هذا ما فعلته حركة “أنصار الله” عبر إغلاق البحر الأحمر أمام حركة الملاحة الإسرائيلية، وهذا ما فعله حزب الله عبر فتح جبهة الإشغال الحدودية، وهي الخطوة التي أسّست لما يُرتقبُ أن تكون عليه صيغة الوضع الحدودي الميداني بين لبنان ودولة الاحتلال.

لا يمكن تجاهل معطى الصورة في هذا العام. سهّل بنيامين نتنياهو و”كابينت” الحرب على صنّاع السينما مشهد الإبادة الجماعية. يواصل الاحتلال تدمير كل مرافق الحياة في غزة قاصدًا بذلك إزالة أسباب حياة الجماعة. كل ما يمتّ للإبادة بصلة استعرضته إسرائيل أمام العالم. وفي مقابل ذلك، ومن دون تجاهل الآلام الفلسطينية المفهومة بفعل شراسة العدوان الإسرائيلي، قدّم المقاوم الفلسطيني نفسه أيضًا شخصيةً رافضةً للمعايير التي يدار بها العالم، حيث تصل الجرأة بنتنياهو إلى الحديث بكل ثقة عن حربه بوصفها حرب الخير على الشر! من هنا كان عام 2023 أساسيًا في إعادة فرض السياقات الصحيحة التي أدّت إلى ما جرى في فلسطين كأزمة عالمية استعادت مركزيتها.

الأكثر منطقيّةً، على الأرجح، هو التعامل مع السابع من أكتوبر نفسه كلحظة مرجعيّةٍ في التاريخ السياسي لهذا الاقليم، كلحظة السويس مثلا، ولحظة تحرير جنوب لبنان، ولحظة الربيع العربي ومعاركه

سياق الحصار، وسياق الاحتلال، وسياق الاعتقال، وسياق الاغتيال، وسياق القتل، وسياق الانتهاكات. زعماء دول كفرنسا وألمانيا وقبلهم أميركا بطبيعة الحال، تجاهلوا هذه السياقات بحجة أن السابع من أكتوبر عمل “إرهابي كبير”. هذا التجاهل لم يكن مجانيًّا، بل كلّف المنطقة حربًا ما زالت على حافة التوسّع، وكلّف العالم ضريبة الانكشاف أمام نفسه وهي مؤلمة في العمل السياسي. هكذا، لم يكن من خيار مؤثّر سوى الوقوف في أحد الجانبين. يحصل ذلك خلافًا لأزماتٍ اقليميةٍ كانت مساحاتها الرمادية أوسع. لكن هذه المساحات لم تنتج حلولًا حتى الآن تُوقف المآسي المستمرة. ضربة في قلب السودان رآها العالم في 2023 عبر الاقتتال بين الجيش وقوات الدعم السريع. هل كان لها ارتباط بالحرب الدائرة في أوكرانيا؟ ربّما نعم، لكنّ الأساس هنا هو فشل الهجوم الأوكراني المضاد بما مثّله من تعثّرٍ غربيٍّ كبير، وفشل الهجوم الإسرائيلي العسكري على غزة، بما مثّله من تعثّرٍ غربيٍّ كبير أيضًا.

المعركة في السودان تبدو في المنتصف بين الهجومين الفاشلين، وقد فاضت مآسيها الانسانية عن الحدّ المعقول بالنسبة إلى حروب السودان الطويلة. وعلى مسافة من الخرطوم، إعصار درنة الليبية وفيضانها الذي كشف الفساد الإداري وسوء التخطيط، وكشف الأخطر أيضًا: نتائج الاحترار المناخي التي بدأت بالظهور تباعًا. لكن رغم هوله، لم يكن بهيبة الزلزال العظيم في جنوب تركيا وشمال سوريا. رأى العالم مأساة إنسانية كبيرة أيضا في الأشهر الثلاثة الأولى من السنة. ورأى أيضًا كيف انكسرت العزلة السياسية العربية عن النظام في سوريا من دون أن تكون لذلك نتائج سياسية من الوزن الثقيل أو نتائج اقتصادية ملحوظة، بل استعادة العلاقات البروتوكولية مع معظم الدول العربية، والمشاركة في القمة العربية التي انعقدت في جدّة. شكّل ذلك بارقة تفاؤل بتحسّن الأوضاع في المناطق التي تسيطر عليها الدولة السورية، ونذير شؤم كبير في المناطق التي تسيطر عليها الأطراف الأخرى. لكن التفاؤل تلاشى مع الوقت بفعل سطوة قانون “قيصر” الاميركي، الذي لم تتجاوزه الدول العربية. التشاؤم أيضًا تلاشى وعادت الانطباعات إلى حيّز الركود. حتى الاتفاق السعودي الإيراني برعاية الصين، لم يحرّك عجلة الحلّ السوري، بل أسهم في تهيئة الأجواء لزيارة الرئيس السوري بشار الأسد إلى الصين.

انتهى العام بحربٍ موصولةٍ إلى العام الجديد. العالم منهك، وحتى تشرين الثاني نوفمبر، سيبقى مترقّبًا بقلق اسم الرئيس الأميركي المقبل. هل ستسبقه تسويات إقليمية تكتيكية؟ ربّما يكون ذلك بفعل أثقال الحروب، لكن الطوفان والإبادة في 2023 أسّسا لما هو أعظم وأكبر.

من ملف: عام 2023.. زلازل وطوفان

جاده ايران تلغرام
للمشاركة: