الجادّة: طريقٌ في اتجاهين
قراءة طويلة12 أكتوبر 2023 07:11
للمشاركة:

فورين أفيرز: نهاية استراتيجية الخروج الأميركي من الشرق الإوسط

" كان لدى القادة الإيرانيين كل الحوافز لمحاولة منع حدوث اختراق إسرائيلي سعودي، وخاصة ذلك الذي كان من شأنه أن يوسّع الضمانات الأمنية الأميركية للرياض ويسمح للسعوديين بتطوير برنامج طاقة نووية مدني".

هذا ما تركّز عليه الكاتبة سوزان مالوني لتفسّر أسباب عمليّة “طوفان الأقصى”، مضيفةً في مقال في مجلّة “فورين أفيرز” أنّ الشرق الأوسط ينجح دائمًا في أن يفرض نفسه على أجندة الرؤساء الأميركيين.

ترجمة/ رأفت حرب

في ما يلي ترجمة المقال:

“كان هجوم حماس الصادم على إسرائيل سبباً في التعجيل ببداية ونهاية الشرق الأوسط. إن ما بدأ، بلا هوادة تقريباً، هو الحرب المقبلة، وهي الحرب التي ستكون دموية، ومكلفة، ولا يمكن التنبّؤ بمسارها ونتائجها إلى حد كبير.

إنّ ما انتهى، بالنسبة لأي شخص يرغب في الاعتراف بذلك، هو الوهم بأن الولايات المتحدة قادرة على تخليص نفسها من المنطقة التي هيمنت على أجندة الأمن القومي الأميركي طوال نصف القرن الماضي.

ولا يمكن للمرء أن يلوم إدارة بايدن على محاولتها القيام بذلك على وجه التحديد. لقد كان لعشرين عاماً من محاربة الإرهابيين، إلى جانب الفشل في بناء الدولة في أفغانستان والعراق، خسائر فادحة في المجتمع والسياسة الأميركيين، واستُنزفت ميزانية الولايات المتحدة”.

وعن نهج الرئيس الأميركي جو بايدن، قالت مالوني:

“بعد أن ورث التداعيات الفوضوية الناجمة عن نهج إدارة ترامب الخاطئ تجاه المنطقة، أدرك الرئيس جو بايدن أنّ التشابكات الأميركية في الشرق الأوسط تصرف الانتباه عن التحديات الأكثر إلحاحًا التي تفرضها القوة العظمى الصاعدة للصين، وقوّة روسيا المتمرّدة المتلاشية.

ابتكر البيت الأبيض استراتيجية خروج مبتكرة، في محاولة للتوسّط بتحقيق توازنٍ جديد للقوى في الشرق الأوسط من شأنه أن يسمح لواشنطن بتقليص وجودها واهتمامها، مع ضمان عدم ملء بكين الفراغ.

وعدت محاولة تاريخية لتطبيع العلاقات بين إسرائيل والمملكة العربية السعودية لتقريب أهم شريكين إقليميين لواشنطن رسميًا ضد عدوّهما المشترك، إيران، وإرساء السعوديين خارج محيط المدار الاستراتيجي للصين.

وبالتوازي مع هذه الجهود، سعت الإدارة أيضًا إلى تخفيف التوترات مع إيران، أخطر خصم تواجهه الولايات المتحدة في الشرق الأوسط. وبعد أن حاولت وفشلت في إحياء الاتفاق النووي لعام 2015 بشبكة معقّدة من القيود، والإشراف على البرنامج النووي الإيراني، تبنّت واشنطن خطة بديلة من المكافآت والتفاهمات غير الرسمية”.

وبشأن ما كانت تتوقّعه الولايات المتحدة، أضافت الكاتبة: 

“وكان الأمل هو أنه، مقابل مكافآت اقتصادية متواضعة، يمكن إقناع طهران بإبطاء عملها في برامجها النووية، والتراجع عن استفزازاتها في جميع أنحاء المنطقة. جاءت المرحلة الأولى في أيلول/ سبتمبر، مع اتفاق أدى إلى إطلاق سراح خمسة أميركيين محتجزين ظلماً من السجون الإيرانية، ومنح طهران إمكانية الوصول إلى ستّة مليارات دولار من عائدات النفط المجمّدة سابقاً. 

وكان الجانبان يستعدّان لإجراء محادثات متابعة في سلطنة عمان، مع تعزيز عجلات الدبلوماسية بصادرات النفط الإيرانية ذات المستوى القياسي، والتي أصبحت ممكنة بفضل غضّ واشنطن أنظارها بدلاً من فرض عقوباتها الخاصة.

ومع استمرار المناورات السياسية الطموحة، كان هناك الكثير مما يمكن التوصية به في هذه المناورة – على وجه الخصوص، التقاء المصالح الحقيقي بين القادة الإسرائيليين والسعوديين الذي ولّد بالفعل زخمًا ملموسًا نحو المزيد من التعاون الثنائي المباشر في المسائل الأمنية والاقتصادية. ولو نجح ذلك، لكان من الممكن أن يكون للتحالف الجديد بين اثنين من اللاعبين الرئيسيين في المنطقة تأثير حقيقي على البيئة الأمنية والاقتصادية في الشرق الأوسط الأوسع”.

ما الذي لم يَسِرْ على ما يُرام؟

تجيب مالوني على هذا السؤال بالتالي:

“لسوء الحظ، ربما كان هذا الوعد بمثابة تراجع عنه. كانت محاولة بايدن للهروب السريع من الشرق الأوسط تعاني من عيب قاتل واحد: فقد أخطأ بفهم الحوافز المقدّمة لإيران، اللاعب الأكثر تخريبًا على المسرح. ولم يكن من المعقول على الإطلاق أن تكون التفاهمات غير الرسمية وتخفيف العقوبات كافية لتهدئة الجمهورية الإسلامية ووكلائها، الذين لديهم تقدير قوي ومختبر عبر الزمن لفائدة التصعيد في تعزيز مصالحهم الاستراتيجية والاقتصادية.

وكان لدى القادة الإيرانيين كل الحوافز لمحاولة منع حدوث اختراق إسرائيلي سعودي، وخاصة ذلك الذي كان من شأنه أن يوسّع الضمانات الأمنية الأميركية للرياض ويسمح للسعوديين بتطوير برنامج طاقة نووية مدني.

في الوقت الحالي، ليس من المعروف ما إذا كان لإيران أي دور محدّد في المذبحة التي وقعت في إسرائيل. وفي وقت سابق من هذا الأسبوع، ذكرت صحيفة “وول ستريت جورنال” إنّ طهران كانت متورّطة بشكل مباشر في التخطيط للهجوم، نقلاً عن أعضاء كبار في حماس وحزب الله اللبناني لم تذكر أسماءهم. ولم يتم تأكيد هذا التقرير من قبل المسؤولين الإسرائيليين أو الأميركيين، الذين ذهبوا إلى حد الإشارة إلى أنّ إيران كانت “متواطئة على نطاق واسع”، على حد تعبير نائب مستشار الأمن القومي جون فاينر.

وعلى أقلّ تقدير، فإنّ العملية “تحمل بصمات الدعم الإيراني”، كما جاء في تقرير نشرته صحيفة “واشنطن بوست”، نقلاً عن مسؤولين إسرائيليين وأميركيين كبار سابقين وحاليين. 

وحتى لو لم تضغط الجمهورية الإسلامية على الزناد، فإنَ أيديها بالكاد نظيفة. فقد قامت إيران بتمويل وتدريب وتجهيز “حماس” وغيرها من الجماعات الفلسطينية المسلّحة، وقامت بالتنسيق الوثيق في ما يتعلّق بالاستراتيجية، فضلاً عن العمليات، خاصة خلال العقد الماضي. ومن غير المُتصوَّر أن تقوم “حماس” بهجوم بهذا الحجم والتعقيد من دون بعض المعرفة المسبقة والدعم الإيجابي من القيادة الإيرانية”.

وعن فائدة كل ما جرى بالنسبة لإيران، تذكر مالوني في مقالها:

“للوهلة الأولى، قد يبدو موقف إيران متناقضاً. ففي نهاية المطاف، مع تقديم إدارة بايدن حوافز اقتصادية للتعاون، قد يبدو من غير الحكمة أن تحرّض إيران على اندلاع نزاع بين الإسرائيليين والفلسطينيين من شأنه أن يقوّض بلا شك أي احتمال لذوبان الجليد بين واشنطن وطهران. ولكن منذ الثورة الإيرانية عام 1979، استخدمت الجمهورية الإسلامية التصعيد كأداة سياسية مفضّلة. وعندما يتعرّض النظام للضغوط، تدعو قواعد اللعبة الثورية إلى شنّ هجوم مضاد لإثارة أعصاب خصومه وتحقيق ميزة تكتيكية.

وتعمل الحرب في غزة على تعزيز الهدف الذي طال انتظاره لقيادة الجمهورية الإسلامية، والمتمثّل بشلّ عدوّها الإقليمي الأكثر شراسة. ولم يتردد القائد الأعلى الإيراني آية الله علي خامنئي قط بعدائه المحموم تجاه إسرائيل والولايات المتحدة. فهو ومن حوله مقتنعون بشدة بالفجور والجشع والشر الأميركي؛ إنهم يشتمون إسرائيل ويطالبون بتدميرها، كجزء من الانتصار النهائي للعالم الإسلامي على ما يعتبرونه الغرب المستكبر و”الكيان الصهيوني” غير الشرعي.

بالإضافة إلى ذلك، في التوسّلات والمصالحات التي قدمتها إدارة بايدن، اشتمّت طهران رائحة الضعف، أي رغبة واشنطن اليائسة بالتخلّص من أعباء حقبة 11 أيلول/ سبتمبر، حتى لو كان الثمن باهظًا.

ومن المرجح أيضاً أن تؤدي الاضطرابات الداخلية في كل من الولايات المتحدة وإسرائيل إلى إثارة شهيّة الزعماء الإيرانيين، الذين كانوا على قناعة منذ فترة طويلة بأنّ الغرب يتحلّل من الداخل. ولهذا السبب، ظلّت طهران ملتزمة بقوة أكبر بعلاقاتها مع الصين وروسيا. وهذه الروابط مدفوعة في المقام الأول بالاستياء المشترك من واشنطن.

ولكن بالنسبة لإيران، هناك عنصر سياسي داخلي أيضا: فمع دفع شرائح أكثر اعتدالًا من النخبة الإيرانية إلى الهامش، تحوّل التوجه الاقتصادي والدبلوماسي للنظام نحو الشرق، حيث لم يعد سماسرة السلطة ينظرون إلى الغرب باعتباره مصدر مفضل أو حتى قابل للحياة للفرص الاقتصادية والدبلوماسية.

وقد شجعت الروابط الوثيقة بين الصين وإيران وروسيا على اتخاذ موقف إيراني أكثر عدوانية، لأنّ الأزمة في الشرق الأوسط التي تشتّت انتباه واشنطن والعواصم الأوروبية ستنتج بعض الفوائد الاستراتيجية والاقتصادية لموسكو وبكين.

وأخيراً، من المؤكد أن احتمال التوصل إلى اتفاق علني بين إسرائيل والسعودية قد وفّر حافزاً إضافياً لإيران، لأنه كان سيحوّل التوازن الإقليمي بقوة لصالح واشنطن. وفي خطاب ألقاه قبل أيام قليلة من هجوم حماس، حذّر خامنئي من أنّ “النظرة الراسخة للجمهورية الإسلامية هي أنّ الحكومات التي تراهن على تطبيع العلاقات مع النظام الصهيوني ستتكبّد خسائر”. وتابع: “الهزيمة تنتظرهم. إنهم يرتكبون خطأ””.

وبشأن مسار الأمور في المستقبل، تُكمل مالوني:

“مع بدء الحملة البرية الإسرائيلية في غزة، فمن غير المرجّح أن يستمر الصراع هناك؛ والسؤال الوحيد هو نطاق وسرعة توسّع الحرب. في الوقت الحالي، يركز الإسرائيليون على التهديد المباشر ولا يرغبون بتوسيع الصراع. ولكن الخيار قد لا يكون لهم. وقد شارك حزب الله، الحليف الأكثر أهمية لإيران، بالفعل في تبادل إطلاق النار على الحدود الشمالية لإسرائيل، والذي قُتل فيه أربعة على الأقل من مقاتلي الجماعة.

وبالنسبة لحزب الله فإن إغراء متابعة صدمة نجاح “حماس” بفتح جبهة ثانية سيكون قوياً. لكنّ قادة حزب الله أقرّوا بأنهم فشلوا بتوقع الخسائر الفادحة التي ستترتب على حربهم مع إسرائيل عام 2006، والتي تركت الجماعة سليمة ولكنها أدت أيضًا إلى تآكل قدراتها بشدة. وربما يكونون أكثر حذرًا هذه المرّة. ولدى طهران أيضاً مصلحة في إبقاء حزب الله كتأمين ضد أي ضربة إسرائيلية محتملة في المستقبل للبرنامج النووي الإيراني.

لذلك، في الوقت الحالي، على الرغم من أنّ التهديد بحرب أوسع نطاقًا لا يزال حقيقيًا، فإنّ هذه النتيجة ليست حتمية. لقد أتقنت الحكومة الإيرانية تجنّب الصراع المباشر مع إسرائيل، ومن المناسب لأهداف طهران، وكذلك أغراض وكلائها الإقليميين ورعاتها في موسكو، إشعال النار مع الابتعاد عنها.

قد يدعو البعض في إسرائيل إلى ضرب أهداف إيرانية، حتى لو كان ذلك فقط لإرسال إشارة، لكن قوات الأمن في البلاد مشغولة الآن، ويبدو أنّ كبار المسؤولين عازمون على الاستمرار في التركيز على القتال الدائر. على الأرجح، مع تطوّر الصراع، ستضرب إسرائيل في مرحلة ما القواعد الإيرانية في سوريا، ولكن ليس في إيران نفسها. وحتى الآن، استوعبت طهران مثل هذه الضربات في سوريا من دون أن تشعر بالحاجة إلى الانتقام بشكل مباشر.

وبينما تتفاعل أسواق النفط مع عودة مخاطر الشرق الأوسط، قد تميل طهران إلى استئناف هجماتها ومضايقتها لسفن الشحن في الخليج العربي. وكان الجنرال الأميركي سي كيو براون، الذي تم تعيينه مؤخراً رئيساً لهيئة الأركان المشتركة، محقًّا في تحذير طهران من البقاء على الهامش و”عدم التدخل”. لكن اختياره للكلمات يشير للأسف إلى فشله في تقدير حقيقة أنّ الإيرانيين متورّطون بالفعل بشكل لا ينفصم.

بالنسبة لإدارة بايدن، فقد حان الوقت منذ زمن طويل للتخلًص من العقلية التي شكلت الدبلوماسية السابقة تجاه إيران: الاقتناع بإمكانية إقناع الجمهورية الإسلامية بقبول التنازلات العملية التي تخدم مصالح بلادها. ذات مرّة، ربما كان ذلك ذا مصداقية. لكن النظام الإيراني عاد إلى فرضيته الأساسية: التصميم على قلب النظام الإقليمي بأي وسيلة ضرورية. ينبغي على واشنطن أن تتخلّص من أوهام التوصّل إلى هدنة مع القلّة الثيوقراطية في إيران.

وفي كل التحديات الجيوسياسية الأخرى، تطوّر موقف بايدن بشكل كبير عن نهج عهد أوباما. إنّ سياسة الولايات المتحدة تجاه إيران هي وحدها التي تظلّ غارقة في الافتراضات التي عفا عليها الزمن قبل عقد من الزمن. وفي البيئة الحالية، لن يؤدي التواصل الدبلوماسي الأميركي مع المسؤولين الإيرانيين في عواصم الخليج إلى ضبط النفس الدائم من جانب طهران.

تحتاج واشنطن إلى نشر نفس الواقعية المتشددة تجاه إيران التي ساهمت في توجيه السياسة الأميركية الأخيرة تجاه روسيا والصين: بناء تحالفات من الدول الراغبة في زيادة الضغط، وشلّ شبكة الإرهاب الإيرانية العابرة للحدود الوطنية؛ وإعادة التنفيذ الهادف للعقوبات الأميركية على الاقتصاد الإيراني؛ وإيصال رسالة بوضوح – من خلال الدبلوماسية ووضع القوة والإجراءات لاستباق الاستفزازات الإيرانية أو الرد عليها – أنّ الولايات المتحدة مستعدّة لردع العدوان الإقليمي الإيراني والتقدّم النووي. يتمتع الشرق الأوسط بطريقة تجعله يفرض نفسه على رأس جدول أعمال كلّ رئيس؛ وفي أعقاب هذا الهجوم المدمّر، يجب على البيت الأبيض أن يرقى إلى مستوى التحدّي”.

جاده ايران تلغرام
للمشاركة: