الجادّة: طريقٌ في اتجاهين
قراءة طويلة28 سبتمبر 2023 15:38
للمشاركة:

معارض الكتب في العراق.. أعجوبة توحيد المتخاصمين

في معرض بغداد الدولي للكتاب الذي يستمر حتى 29 أيلول/ سبتمبر الحالي، تشاهد أجنحة أحزاب وجماعات سياسية ودينية عراقية. هذه الأطراف تجد نفسها اليوم في ما يشبه جبهة ثقافية واحدة بعد أن كانت مختلفة في ما بينها لدرجة أنتجت في بعض المراحل سقوط قتلى كما حدث في أخر اشتباكات العام الماضي.

ومع ذلك، يجد أكثر من خلاف سبيله إلى أروقة المعرض المتنافس مع معرض آخر سيقام بعد شهرين تقريباً.

صور مجانية وتبشير

ترتفع هنا صور زعماء دينيين مثل آية الله محمد محمد صادق الصدر مؤسس التيار الصدري، والقائد الأعلى الإيراني آية الله علي خامنئي، وتجد كتبًا من تأليفهم أو تتناول سير حياتهم ومشاريعهم الفكرية والسياسية.

عند الباب يقف شابّان يقدّمان للداخلين ورقة تتضمّن تعاليم السيّد المسيح عن التسامح ومقابلة الأعداء بالمحبّة، مرفقة بترددات البث لإذاعتين مسيحيتين، مع رقم هاتف للتواصل من أجل فهم المزيد عن المسيحية التي تعرّضت كنائسها في العراق وأتباعها لهجمات وتهجير منذ 2003.

كما يشغل مكتب آية الله كمال الحيدري – الذي يقول أتباعه إنه تم إقصاؤه عن الساحة الشيعية نتيجة أفكاره المختلفة – أكثر من جناح داخل المعرض، ويقدّم صور الحيدري كهدايا للزبائن، ويبيع مؤلّفاته بأسعار مخفضّة، بينما تقدّم وزارة الشباب والرياضة قسائم مجّانية لشراء كتب بقيمة 25 ألف دينار عراقي (19 دولاراً).

لا تدور هنا أحاديث علنية عن الخلافات الداخلية، إذ أن موضوع النقاش الأبرز بين المشاركين الإسلاميين هو “الحرب الناعمة” التي يتّهمون الولايات المتحدة والغرب بشنّها ضد الإسلام وقيمه، مشيرين في هذا الإطار إلى ترويج المثلية وفكرة “الجندر” التي تحفز على إلغاءً الفوارق بين الجنسين، كما يفهمها هذا الفريق.

الجدير ذكره أن هاتان القضيّتان مثار جدل واسع بدأ منذ أشهر – تردّدت خلاله اتهامات لشخصيات سياسية ودينية محلّيّة بـ”ضعف الرد”- وعلى إثره اتخذت السلطات المعنيّة عن تنظيم بث وسائل الإعلام إجراءات ندّدت بها منظمة العفو الدولية.

كتب ممنوعة وحضور سياسي

تحدث رئيس اللجنة المنظّمة لمعرض بغداد الدولي للكتاب عبد الوهاب الراضي عن الكتب الممنوعة من العرض في حديثه لـ”جادة العراق” قائلاً إنّ المنع يشمل “الكتب التي تروّج للجندر والإباحية، أو تنال من الرموز الدينية والوطنية، وتدعو إلى الإرهاب والطائفية”.

كنا نستعد لإجراء مقابلة مع الكاتب المعروف في أوساط التيار الصدري علي الزيدي، عندما كان هناك رجل كهل يستمع لحديث عن “المخاطر الفكرية التي تواجه المسلمون والعقيدة الشيعية”، ثم ابتعد وهو يردد “يا رب سترك” بصوت عالٍ.

كرر الزيدي الاتهامات الموجّهة للولايات المتحدة وحلفاء غريبين لها بـ”الاستيلاء على مراكز مهمة في البلد تتيح لهم المساس بعقول الشباب وطلبة الجامعات والأكاديميين، وفرض ثقافة تناقض الدين الإسلامي في المناهج الدراسية الرسمية”.

وأضاف لـ”جادة العراق” أنّ “الهجمة الثقافية تستهدف الشيعة لأنهم يتميّزون بتقليد مراجع الدين، وضمن أهدافها إبعاد الشباب عن اتّباع هؤلاء المراجع، وكذلك التعرّض للقرآن والنبيّ محمد”.

كما تطرق لجماعة “أصحاب القضية” الذين ينظرون إلى مقتدى الصدر على أنه المهدي المنتظر، إمام الشيعة الغائب، وقد كفرّهم الصدر وأمر بمقاطعتهم، في حين يسود بين أتباعه اعتقاد بأنها، رغم قدِمها، حركة سياسية يستغلها خصوم زعيمهم لإضعاف مكانته وإحراجه أمام المجتمع الشيعي ومراجع الدين.

يدعو الزيدي الذي كان يتحدث أمام زاوية تُعرض فيها كتبه التي يتناول أحدهم “أصحاب القضية”، إلى الوحدة والتكاتف في مواجهة الأخطار الجديدة، لكن هذه الوحدة المطلوبة كما يقول تصبح مهدّدة عندما “يستغل السياسيون هكذا فعاليات ثقافية للترويج لأنفسهم”.

في العام الماضي افتتح رئيس ائتلاف دولة القانون نوري المالكي، الخصم السياسي للتيار الصدري، دورة المعرض ذاته فانسحب منه مكتب مقتدى الصدر فوراً.

وترعى قناة “آفاق” التابعة للمالكي الدورة الحالية للمعرض، كما حضر إليه أحد اقاربه ياسر المالكي مسؤول حركة “البشائر” الشبابية وتجوّل في أروقته، وسبقه إحضار مجموعات كبيرة من صغار الشبّان وهم يضعون شارات الحركة.

استهداف

يقول علي الزيدي إن “معرض الكتاب هذا العام افتتحته شخصية تملك صفة رسمية لذلك تجد الحضور عالياً، بالعكس مما لو افتتحه سياسي لا يملك مثل هذه الصفة وعندها ستقاطعه دور النشر والقرّاء”.

بيد أن أوساطاً علمانيةً ترى في الحضور القوي لشخصيات سياسية وأحزاب وجماعات دينية مثالاً على “هيمنة” هذه الأطراف على فعاليّات ثقافية هجرها عشرات الناشطين المعارضين فكرياً بعد تظاهرات 2019.

وتنقسم دور النشر المحلية إلى فريقين متنافسين، يقيم كل منهما سنوياً معرضاً دولياً للكتاب بفارق أشهر عن الثاني، أولهما معرض بغداد الدولي والآخر معرض العراق الذي تنظمّه دار “المدى” المملوكة للقيادي البارز في الحزب الشيوعي سابقاً فخري كريم. وشهدت دورة هذا المعرض قبل عامين جدلاً إثر عرض كتابٍ بعنوان “المشروع الأسود بين إيران وإسرائيل”، فتدخل كلا من وزارة الثقافة والأمن الوطني لسحبه.

في هذه الأجواء، يعتقد رئيس اللجنة المنظّمة لمعرض بغداد الدولي للكتاب عبد الوهاب الراضي بأنّ “هذا المعرض الذي تشارك فيه 600 دار نشر محلية وعربية وأجنبية، ويُعرض فيه أربعة ملايين نسخة من الكتب المتنوعة هذا العام مستهدف بسبب خصوصيته الوطنية والوسطية”.

ولا يجد الراضي أية مشكلة في حضور السياسيين أو دور النشر التابعة لهم في معرضه “طالما أنهم يلتزمون بالضوابط التي نضعها”. وتساءل “أي هيمنة سياسية يتحدثون عنها؟ لا يوجد فيتو على مشاركة أحد، ونحن نرحّب بالجميع وندعوهم إلى الحضور”.

كما التقينا بالكاتب والصحافي المعروف مازن الزيدي في معرض بغداد الدولي للكتاب، وهو الذي كان يحمل توجهات علمانية في الماضي وتحوّل لاحقاً إلى تأييد توجهات فكرية تتبنّاها أحزاب شيعية.

لا يوافق الزيدي على اعتبار الحضور القوي لأحزاب وجماعات دينية في فعاليّات ثقافية مثل معارض الكتب يمثل “هيمنة” عليها من جانب هذه الأحزاب والجماعات. وفي هذا الإطار علّق: “بعض المحسوبين على التوجهات المدنية ويقيمون خارج العراق يسوّقون أمورًا غير صحيحة عن الوضع في البلد”، مضيفاً أنّ “الكثير من المعارضين للنظام السياسي يتواجدون في العراق ولهم صوتهم الناقد والمعارض وحتى الشاتم.

معارض الكتب في العراق.. أعجوبة توحيد المتخاصمين 3

من الاتحاد السوفييتي إلى الإسلام السياسي

ألّف محمد غازي الأخرس عدة كتبٍ آخرها “جحيم المثقف (الثقافة والأيديولوجيا في العراق 1945-1980)”. ويتطرق في أحد فصول هذا الكتاب إلى صراع السيطرة على مؤسسات إنتاج الخطاب، كدوائر التعليم والنقابات والإذاعة والتلفزيون في تلك الحقب.

ليس هناك بالنسبة للأخرس، مبدئياً، ما يمنع حضور الأحزاب والجماعات الدينية ومنظّمات المجتمع المدني، بغض النظر عن دوافعها، سياسية كانت أم ثقافية أو تجارية، إلى معارض الكتب، ما دامت لم تكن هناك محددات للحضور من قبل المنظّمين.

“لطالما رأينا ذلك في معارض الكتب منذ عقود”، قال الكاتب المعروف لـ”جادة العراق”، مشيراً إلى أن “دولاً مثل الاتحاد السوفياتي سابقاً، أو التي تحكمها أنظمة شمولية، كانت تستثمر هذه المناسبات وتوقف أجنحة كاملة لعرض مؤلفات سياسية أو مروِّجة لأيديولوجيات يسارية أو قومية”.

وأضاف الأخرس أنّ “هذا الدأب انتقل إلى أحزاب اليوم ذات التوجهات المختلفة، بما في ذلك الإسلام السياسي، وحتى الحركات التبشيرية، ناهيك عن الأيديلوجيات القومية”.

وسأل: “أين المشكلة في الوضع العراقي؟ المشكلة ببساطة أنّ العراق يعيش حالة استثنائية في فترة ما بعد 2003، لجهة تدخل السياسة والأحزاب بالحياة اليومية للمواطن، وتغوّل هذه الأحزاب والحركات ودخولها إلى أغلب مفاصل الحياة”.
من هنا، يرى الأخرس أنّ ما يدفع للتشكيك بمشاركة هذه الأحزاب بفعالية معرض الكتاب هو منطق جني الفوائد الذي يتحكم بمعظم هذه الأحزاب، وتحكم منظومة الفساد فيها.

وأردف: “لهذا، تنتاب المرء الشكوك من مشاركتها في الفعاليات التي تشهد حضورًا اجتماعيًا كبيرًا، بغض النظر عن نوع الحضور. عدا هذا، واحدة من خصائص الثقافة الحقيقية هي الحرية وعدم التقيّد بقيود الأيديولوجيا”.

وبرأي صاحب كتاب “خريف المثقف”، فإنّ “الحضور الطاغي للأحزاب في الفعاليات الثقافية يمكن أن يقيّد الحرية، عبر فرض التابوهات المعروفة.، بل إنّ حضور الأحزاب قد يجعل كثيراً من المهتمين بالثقافة يعزفون عن الحضور”.

معارض الكتب في العراق.. أعجوبة توحيد المتخاصمين 4

ماذا تحمل الرفوف؟

مجمل الكتب المعروضة في دور النشر السعودية والإماراتية والمصرية والكويتية، وكذلك المغرب – ضيف الشرف – في معرض بغداد الدولي للكتاب تتناول الأدب والدين والتاريخ.

وفي حين تُثقل الكتب السياسية رفوف بعض الدور اللبنانية، وقسم منها يتناول التدخّلات العسكرية الأميركية في المنطقة، بدا الحضور الثقافي الإيراني بارزاً.

في جناح طويل خاص بدار “المعارف الإسلامية”، وجدنا مسؤول التسويق عصام نعمة مبتهجاً بزبائنه ونوعية طلباتهم.

وقال لـ”جادة العراق” إن “أطفالاً بعمر التاسعة، وكذلك شبّانًا وطلبة جامعات، يُقبلون بكثافة على شراء كتب تتناول سيرة وأفكار قائد الثورة الإسلامية الإيرانية آية الله الخميني والمرشد علي خامنئي”.

معارض الكتب في العراق.. أعجوبة توحيد المتخاصمين 5
جاده ايران تلغرام
للمشاركة: