الجادّة: طريقٌ في اتجاهين
قراءة طويلة18 أغسطس 2023 14:54
للمشاركة:

من العصا إلى الجزرة.. لماذا غيرت إيران استراتجيتها في الشرق الأوسط؟

رأى الكاتب الأميركي كينيث بولّاك أنّ إيران تتبع نهجًا جديدًا يهدف إلى دق إسفينٍ بين الدول العربية وإسرائيل، وبين الدول العربية والولايات المتحدة أيضًا، مشددًا في مقاله بمجلة "فورين بوليسي" الأميركية أنّ أي تحالف سعودي – إسرائيلي يجب أن يأتي ضمن الدور الأميركي الأكبر في الشرق الأوسط، وليس بديلًا عنه.

منذ ثورة 1979، حاولت القيادة الإيرانية بعقلية واحدة الهيمنة على الشرق الأوسط وطرد الولايات المتحدة وإسرائيل. طوال الوقت، اعتمدت طهران بشكل كبير على العصا التي يُضرب بها المثل للقيام بذلك: محاولة تخريب الدول العربية بالابتزاز أو التمرّد، بينما تشنّ حملة إرهابية لا هوادة فيها ضد الولايات المتحدة وإسرائيل.

في حين أنّ هذه الأهداف لم تتغيّر، يبدو أنّ الإيرانيين قد غيّروا استراتيجيتهم الكبرى بطريقة أساسية.

لا يمكننا أن نكون متأكدين أبدًا، لأنّ صنع القرار الإيراني دائمًا ما يكون غامضًا، لكن يبدو أنّ إيران اكتشفت فجأة أن الجَزَرَ يمكن أن يمثّل أدواتٍ مفيدة للسياسة الخارجية أيضًا.

في كل مكان تنظر إليه تقريبًا، تقدّم طهران الآن حوافز إيجابية للتعاون، وتقلّص في الغالب من تكتيكاتها القوية. السؤال الذي يواجه الولايات المتحدة الآن هو كيفية تعديل سياستها في المقابل.

هناك العديد من الأمثلة على التحوّل في إيران:

بوساطة صينية، أبرمت إيران صفقة مع المملكة العربية السعودية، والتي، في ظاهرها، تمنح الرياض أكثر بكثير مما تحصل عليه طهران.

ونتيجة لذلك، استأنفت الدولتان العلاقات الدبلوماسية بعد انقطاع دام عقدًا من الزمن. بل إنهم يتحدثون عن التعاون لمنع السودان من الانزلاق أكثر في الحرب الأهلية.

كما استأنف الإيرانيون العلاقات الدبلوماسية مع الإمارات العربية المتحدة، وتتطلّع طهران إلى التعاون مع أبوظبي في قضايا النقل الجوي والبنية التحتية أيضًا. وذهبت الإمارات إلى حد الانسحاب من التحالف البحري الذي تقوده الولايات المتحدة في الخليج، ووافقت على الانضمام إلى تحالف منافس مع إيران. حتى أنهم بدأوا مناقشات هادئة مع البحرين، التي لم تغفر حكومتها لإيران محاولات مختلفة لتأجيج الثورة من قبل الأغلبية الشيعية في البلاد.

إيران لديها أيضا اتفاق تنمية جديد مع سلطنة عمان، وتطبيعٌ للعلاقات مع مصر. وبالمثل، استأنف الإيرانيون المحادثات مع تركيا (وروسيا وسوريا) بشأن إيجاد حلٍّ لمشاكلهم المشتركة في العراق وسوريا. لديهم ترتيب جديد لمقايضة النفط مقابل الغاز مع العراق، حيث يسيطر حلفاؤهم على الحكومة أكثر من الماضي.

والأكثر إثارةً للدهشة، هو أنّ إيران اقترحت منتدى إقليميًا من دون الولايات المتحدة أو إسرائيل، والأخيرة تحظى ببعض الزخم بطريقة لم تكن لتتخيّلها قبل عقد من الزمن. أنهى وزير الخارجية الإيراني لتوّه جولة في الخليج في أربع دول نالت استحسان الإيرانيين كما لم يحصل من قبل.

طبعًا ليس كل ما بين العرب والإيرانيين نبيذ وورد. نظرًا لكون طهران هي طهران، فلا يمكنها تمامًا تجنّب الخلافات مع الكويت بشأن حقل غاز مشترك، ومع الإمارات بشأن ثلاث جُزُرٍ استولى عليها الشاه قبل سقوطه، ومع السعوديين بشأن استمرار تزويد الحوثيين بالأسلحة في اليمن. لكن بشكل عام، كان هجومًا ساحرًا حقيقيًا وفقًا للمعايير الإيرانية.

ومع ذلك، فإنّ كل هذا السلام والمحبّة والصداقة مع جيرانهم لم يمتد إلى الولايات المتحدة وإسرائيل. هناك، يواصل الإيرانيون استخدام هراواتهم قدر استطاعتهم. في مواجهة الولايات المتحدة، تواصل البحرية الإيرانية مضايقة السفن الأميركية في الخليج، وقد هاجمت إيران أو احتجزت ناقلات النفط المرتبطة بالولايات المتحدة أو إسرائيل خمس مرات على الأقل خلال الأشهر الستة الماضية.

كثّف الإيرانيون دعمهم لمختلف الجماعات الإرهابية الفلسطينية، كما كثّف حلفاؤهم ووكلاؤهم من بين الميليشيات الشيعية في العراق من مضايقاتهم للقوات الأميركية هناك. جنبًا إلى جنب مع حلفائهم السوريين والروس، يفعل الإيرانيون الشيء نفسه في سوريا. حتى إطلاق سراح السجناء الأخير بين الولايات المتحدة وإيران، يبدو أنه يتعلّق بالحاجة الإيرانية الماسّة إلى المال أكثر من أي مصلحة في انفراج حقيقي.

كما قالت أغنية بوفالو سبرينغفيلد القديمة، هناك شيء ما يحدث هنا، لكنه غير واضح تمامًا.

ما يبدو على الأرجح، هو أنّ فكّ ارتباط الولايات المتحدة المستمر بشؤون الشرق الأوسط (في عهد الرؤساء باراك أوباما، دونالد ترامب، والآن – بدرجة أقل، ولكن لا يزال مستمرًا في نفس الاتجاه – جو بايدن) قد خلق فرصة لطهران.

كل حلفاء الولايات المتحدة في المنطقة مرعوبين من أنها لن تحميهم بعد الآن من التخريب الإيراني أو حتى العدوان المباشر. كان أداء بايدن أفضل في هذا المجال، لكن لم ينسَ أي منهم كيف سخر ترامب من فكرة الدفاع عن المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة من هجوم إيراني مباشر في عام 2019، مما أدى إلى قلب 40 عامًا من السياسة الأميركية.

نتيجة لذلك، على مدى السنوات العديدة الماضية، شعر حلفاء الولايات المتحدة في الشرق الأوسط بالحاجة إلى تقليل اعتمادهم عليها والبحث عن أصدقاء جدد وداعمين محتملين. كان هذا مصدر موجة من المغازلة في الشرق الأوسط مع الصين وروسيا والهند وبعض الدول الأوروبية.

قد تهدف السياسات الخارجية الإيرانية الجديدة إلى الاستفادة من هذا الوضع. بعد 40 عامًا من التخريب والعدوان غير المخفَّفَين، تعرف الدول العربية جيدًا ما تستطيع إيران القيام به – خاصةً إذا لم تكن الولايات المتحدة موجودة لعرقلة ذلك.

إلى هذا التهديد الحقيقي، يبدو أنّ طهران تضيف حافزًا لعلاقات أفضل إذا تخلّى العالم العربي عن تبعية الولايات المتحدة وقبل السيادة الإيرانية بدلاً من ذلك.

نظرًا لكون الأميركيين يبدون أقل اهتمامًا بالشرق الأوسط، وروسيا مقيّدة في أوكرانيا، والصين لا تزال تفتقر إلى القوة العسكرية لتولي زمام الأمور ولتبدو الرجل القوي إقليميًا، تبدو إيران الأكثر لطفًا وجذابةً للدول العربية الخائفة. هذا هو سبب إثبات الهجوم الساحر الإيراني الجديد فعاليته، على الأقل إلى حد محدود حتى الآن.

في غضون ذلك، يبدو أنّ عدوانية طهران المستمرة تجاه الولايات المتحدة وإسرائيل مكمّلةً لاستراتيجيتها العربية. من المحتمل أن تعتقد إيران بأنّ استمرار الهجمات على أفراد ومصالح واشنطن في المنطقة سيساعد في تسريع رحيل الولايات المتحدة.

أما بالنسبة لإسرائيل، فإنّ تسخين الصراع هناك يساعد إيران على وضع الدول العربية في معضلة أكثر حدة: يمكنك إما الانضمام إلينا والحصول على السلام والتجارة، أو الانضمام إلى إسرائيل والخوض في الحرب. خاصة مع وجود حكومة إسرائيلية يمينية متطرّفة مصمّمة على العمل ضد الفلسطينيين بطرق بغيضة حتى بالنسبة للعرب الأكثر اعتدالًا، فإنّ بعض الابتعاد عن إسرائيل له فوائده بالنسبة للعديد من الأنظمة العربية. وبالتالي، فإنّ النهج المزدوج المتمثّل في تدليل الدول العربية، مع تضخيم الهجمات على الولايات المتحدة وإسرائيل، ربما يهدف إلى دق إسفين بين الدول العربية وأعداء إيران الرئيسيين.

أكثر ما تخشاه إيران هو المصالحة بين الولايات المتحدة وحلفائها العرب، والمزيد من التقارب بينهم وبين إسرائيل. في الواقع، يشير هذا النهج الاستراتيجي الجديد إلى أنّ إيران قد أدركت أخيرًا أنّ تنمرها يقود خصومها مع بعضهم، ومن هنا جاء التركيز الجديد على الانقسام من أجل الانتصار.

حتى الآن، كان الدافع الرئيسي لاتفاقات إبراهيم وأوجه التقارب الأخرى بين الدول العربية وإسرائيل هو الرغبة في الاتحاد معًا بدافع الخوف المشترك من إيران وحلفائها وأتباعها.

هنا أيضًا، فإنّ إدارة بايدن محقّة بأنّ المصالحة السعودية الإسرائيلية والتحالف النهائي، رسميًا أو غير رسمي، سيكونان خطيرين على إيران، وربما مفيدين جدًا للولايات المتحدة.

إنّ الجمع بين أقوى جيش إقليمي وأقوى اقتصاد عربي سيشكل عقبة رهيبة أمام المزيد من العدوان الإيراني. لهذا السبب يعمل الإيرانيون بجد لمغازلة السعوديين والدول العربية الأخرى، ولإبعادهم عن الإسرائيليين والولايات المتحدة.

تستحق إدارة بايدن الثناء لاعترافها بجوانب مثل هذا الاختراق السعودي الإسرائيلي، والعمل الجاد لمحاولة تحقيقه. لكن هناك خطر كامن أيضًا. في حين أنّ التحالف الإسرائيلي – السعودي سيكون دائمًا تهديدًا لإيران، فما سيُثبت إن كان سيشكّل نعمة للولايات المتحدة هو مشاركتها في هذا التحالف.

لا يحترم الإيرانيون القدرات العسكرية السعودية (أو حتى الإسرائيلية) كما هو الحال مع القوة العسكرية الأميركية، وبالتالي لم تردعهم أبدًا كما هو الحال مع القدرات الأميركية.

جزئيًا لأنهم يدركون ذلك، وجزئيًا لأنهم ببساطة لا يمتلكون نفس النطاق من قدرات جمع المعلومات الاستخباراتية مثل الولايات المتحدة. غالبًا ما يبالغ كل من الإسرائيليين والدول العربية في رد فعلهم تجاه التحرّكات الإيرانية المشبوهة، بطرق كان من الممكن أن تنفجر لو لم تتدخّل واشنطن لتهدئة مخاوفهم وردع خصمهم.

ما يعنيه كلُّ هذا هو أنه في غياب دور نشط للولايات المتحدة في المنطقة، وفي مثل هذا التحالف، يمكن لتحالف إسرائيلي – سعودي جديد أن يثير عدوانًا إيرانيًا أكبر، ويؤدي إلى تصعيده، مما يؤدي إلى صراع أوسع سيكون كارثيًا للمنطقة، وربما للولايات المتحدة والعالم، إذا أثّر على تدفقات الطاقة في الشرق الأوسط.

لهذا السبب يجب أن يُنظر إلى التحالف الإسرائيلي – السعودي على أنه جزء من التزام الولايات المتحدة تجاه الشرق الأوسط، وليس بديلاً عنه. يبدو أنّ إيران تعلّمت حيلة جديدة. يبقى أن نرى ما إذا كانت الولايات المتحدة تستطيع فعل ذلك أيضًا.

إن المعلومات والآراء المذكورة في هذه المقالة المترجمة لا تعبّر بالضرورة عن رأي جاده إيران وإنما تعبّر عن رأي كاتبها أو المؤسسة حيث جرى نشرها أولًا

جاده ايران تلغرام
للمشاركة: