الجادّة: طريقٌ في اتجاهين
قراءة طويلة9 يوليو 2023 14:37
للمشاركة:

عن ليز المختطفة في العراق… إسرائيلية بوجوه عديدة

هدوء الشوارع الفرعية في حيّ الكرادة وسط بغداد لا يعكس الحذر والقلق اللذين يشعر بهما معظم سكانه. لا علاقة لهم بسبب القلق الذي بدوره يستدعي تحركا زائدا عن العادة من أجهزة الاستخبارات هناك، حتى وإن غاب عناصرها عن مجال النظر.

السبب هو قصة الباحثة والصحفية الإسرائيلية التي كُشف عن كونها مختطفة في العراق، واسمها الذي كانت تعرف به ليزا أركادي. فقد كانت تسكن في أحد المباني حديثة البناء في الكرادة. إسرائيلية من أصول روسية، قدمت نفسها باسم والدها وقالت إنها باحثة أكاديمية تزور العراق من أجل إعداد دراسات لصالح جامعة برنستون الأميركية ومعهد “نيو لاينز”. هي اليوم، وبعد شيوع أخبار اختطافها التي يصعب أن تجد جهة رسمية تعطي رأيا جازما فيها، باتت محور قصة لافتة فيها من المعطيات ما هو واضح ويدعو للكثير من التساؤلات، ولعل ذلك هو السبب الأساسي في الحجم المقتضب للكلام الرسمي عنها سواء في العراق أو جواره أو في “إسرائيل”. 

عن ليز المختطفة في العراق... إسرائيلية بوجوه عديدة 1

صورة خاصة لـ”جادة العراق” من أمام المبنى الذي كانت تسكن فيه اركادي

بعد فترة وجيزة من اختفائها في الثالث والعشرين من آذار/ مارس الماضي، بدأ القلق يتسرب إلى من عرفوها شخصيا، إذ انكشف أمامهم أنها إسرائيلية، زاد من منسوب التوجس نشر تغريدات سابقة لها تقول فيها إنها خدمت في الجيش الإسرائيلي خلال حرب لبنان 2006، وأنها عملت في مجال الاستخبارات، خاصة وأن القانون العراقي واضح في تجريم التواصل مع الإسرائيليين.

لم تكن قصة إليزابيث تسوركوف (الاسم الأصلي لليزا أركادي) أو أصولها الإسرائيلية معروفين كما اليوم، حتى أعلن رئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو عن ذلك يوم الأربعاء الماضي 5 تموز/ يوليو الحالي، حيث جاء ذلك ضمن اتهامه لـ”كتائب حزب الله العراق”  باختطافها، وتحميله السلطات العراقية مسؤولية حياتها. حينذاك، نفى المسؤول الأمني للكتائب أبو علي العسكري ذلك في بيان نشره على منصته في تطبيق “تلغرام”، وقال: “إن اعتراف رئيس وزراء الكيان الصهيوني بوجود عنصر أمني إسرائيلي أسيراً في العراق هو مؤشر خطير للغاية”، وأضاف التالي: “سنبذل جهداً مضاعفاً للوقوف على مصير الأسير أو الأسرى الصهاينة في العراق خدمةً للصالح العام ولمعرفة المزيد عن تلك العصابة الإجرامية”.

صدمة، وقلق، وخيبة. عبارات تختصر شهادات عدد ممن قابلوا تسوركوف وعرفوا بهويتها الحقيقية بعد ما جرى أخيرا. جميعهم، ولحساسية الموضوع اشترطوا عدم ذكر إسمهم ليقدموا لـ”جادة العراق” ما يمكن تقديمه عن لقاءاتهم بها. وهنا، نسرد شهاداتهم المقتضبة تباعا:

علي (اسم مستعار)، التقى بها ثلاث مرات. عرفها باسمها المتعارف عليه: أليزا أركادي، ويقول” روسية وباحثة في معهد أميركي نسيت اسمه”. يقول إنها ركّزت أحاديثتها معه “على التيار الصدري تحديدا، وسألت عن إمكانية الوصول إلى قيادات في التيار لمقابلتهم كجزء من عملها البحثي”. اللافت في شهادته، أيضا، هو أنها “كوّنت شبكة علاقات واسعة ركزت فيها على العاملين في الأنشطة السياسية والصحافية والثقافية”. 

رامي (اسم مستعار)، تفاجأ كثيرا حين علم بهويتها الحقيقية، وقال إن ذلك أصابه بالذهول. فقد التقى ليزا  “أكثر من ست مرات تخللّها سلام حار وتقبيل على الخد” كما يقول. لعلّ تحوّله عن القناعة بمبادئ التيار الصدري إلى الفكر الليبرالي هو ما جذب ليزا للتواصل معه. يقول إنها تواصلت معه عبر صديقة مشتركة، وطلبت “إجراء مقابلة حوارية معي ضمن عملها كباحثة، فطلبت منها هويتها فأبرزت لي بطاقة من جامعة أميركية. أجرينا الحوارات باللغة الانكليزية، وسألتني عن التيار الصدري وأجبتها عنها، لكنني رفضت وصلها بقيادات من التيار حين طلبت ذلك، لأنني لم أعد صدريًا”. 

هشام (اسم مستعار)، صحفي شاب تعرف على ليزا عبر صديقة مشتركة هي ناشطة مدنية كانت تتشارك معها السكن مقابل دفع نصف الإيجار. يقول إن من كانت تجلس معهم اختفوا تماما بعد غيابها وتوقفوا عن التردد إلى المقهى حيث كانت لقاءاتهم بها. ويضيف: ” عندما اختفت، عرفنا أن عناصر من جهاز المخابرات جاءوا إلى الشقة وصادروا منها أجهزة إلكترونية وحقيبة. بعض أصدقائها الآن يخضعون للاستجواب داخل مقر للاستخبارات في بغداد، وخلال تحقيق سابق عرضوا عليهم صورا لناشطين ومن بينهم صورتي، وسألوا عن طبيعة العلاقة بها قبل أن يطلقوا سراحهم. لم يطلبني أحد للتحقيق لكن أشعر أنني مراقب”.

عن ليز المختطفة في العراق... إسرائيلية بوجوه عديدة 2

صورة من حساب الانستغرام الخاص لـ اليزابيت تسوركوف أثناء زيارتها لمدينة الفلوجة العراقية

حسن (اسم مستعار)، التقيناه على رصيف قرب مقهى شهير في أحد الشوارع الفرعية للكرادة، ويرتاده عادة صحافيون وفنانون وناشطون. يبدو أن حسن كان مقربا منها، لكنه أيضا يؤكد عدم معرفته بجنسيتها الإسرائيلية، وأنه تفاجأ كثيرا حين نشر ذلك. خرجا معا إلى مدن مجاورة لبغداد، وقد عزز علاقته بها “لأني كنت آمل الحصول على فرصة عمل في الصحافة الأجنبية عبر معرفتي بها”. حذف الصور التي تجمعه بها فور علمه بقصتها واختفائها وجنسيتها.

كمال (اسم مستعار)، عامل في إحدى المقاهي المعروفة في الكرادة. يصف ترددها على المقهى بأنه مشابه لشخص يعيش فيه. يؤكد أنها تتحدث العربية بشكل جيد، وتندمج بسرعة في الأجواء حولها، معظم أصدقائها ممن شاركوا في احتجاجات تشرين 2019. ويضيف: “لم تكن تثير الريبة بأي شكل بل العكس، حتى أنها كان مرحة وتشارك أصدقاءها دفع الحساب”.

طلب ضباط الاستخبارات من إدارة المقهى تسجيلات كاميرات المراقبة التابعة له وحصلوا عليها، حيث تم نسخ محتواها وإعادتها إلى مكانها، وفق ما يكشف لنا أحد الإداريين في المقهى.

لا تغيّر وزارة الداخلية في ردها على أي سؤال يوجه إليها بخصوص “ليزا”. فالجواب ثابت: “نحن نحقق ولا معلومات الآن”، ثم يغلق المتحدث سماعة الهاتف. مصدر  في الوزارة أخبرنا أن هناك تعليمات بعدم الحديث عن هذه القضية. هذا الأمر ينسحب أيضا على الفصائل المسلحة والمتحدثين باسم الكتل النيابية المقربة منها، حيث يبدو قرار عدم الحديث إلى الصحافة حول هذه القصة نهائيا حتى إشعار آخر. وبالعودة إلى المصدر في وزارة الداخلية فقد كشف لنا التالي: “قيادات سياسية كبيرة مهتمة بالأمر، ورئيس الحكومة محمد شياع السوداني أصدر أوامر بالبحث عن تسوركوف. راجعنا كاميرات المراقبة في الكرادة وأيضاً في الموصل التي زارتها أيضاً آخر مرة، ولم نجد شيئاً يفيد التحقيق”. ويختم قائلا: “يوجد اعتقاد بوجودها في سوريا حالياً. وقد نفت فصائل مسلحة لوزارة الداخلية أن تكون في حوزتها”.

اللافت أيضا الصمت الذي رافق قضيتها لمدة تزيد عن ثلاثة أشهر، وكأن الحكومة الإسرائيلية كانت تتحاشى التعامل مع ألخبر علنا، وطلبت الأمر عينه من عائلة تسوركوف، حتى نُشر التقرير الأول أواسط حزيران/ يونيو الماضي والثاني بداية شهر تموز/ يوليو. تمنت عائلة اليزابيت على أكثر من وسيلة إعلام الامتناع عن النشر “لأن هذا من مصلحة القضية”، لكن هذه العائلة عينها تبحث الآن عن باب يوصلهم لابنتهم التي جاؤوا بها مهاجرة إلى إحدى مستوطنات الضفة الغربية المحتلة قبل ما يربو عن الثلاثين عام.

لم يكن خروج العائلة من الاتحاد السوفياتي سلسا، الوالدة وليز سبقتا الوالد اركادي الذي كان معارضا للنظام الشيوعي هناك. وعندما سجن الأب تشارك ذات الزنزانة مع ناتان شارنسكي الذي تحول لاحقا إلى وزير إسرائيلي متطرف ومسؤول في الوكالة اليهودية. اليزابيت عملت مع شارنسكي في فترة ما من حياتها بعد خدمتها العسكرية، وقبل التحاقها بالجامعة ومجموعة الأزمات ومؤسسة بيت الحرية التي يملكها جورج سوروس. هذه وجوه اليزابيت التي لم تخف شيئا عن نفسها على وسائل التواصل الاجتماعي. فصول تقاطعت مع تحولها إلى ناشطة مؤيدة حتى النخاع للثورة في سوريا وفصل متأخرٌ قدمها لنا بصفة رحالة بحثية في ربوع العراق ولبنان وسورية، للبحث حول التيار الصدري والشيعية السياسية في العراق.

في تغريدة لها من العام 2021 وربما تكون التغريدة من العراق، كتبت اليزابيت عن ميولها الجنسية بشكل لا يقبل الشك، قالت “أنا لا أضاجع أو اتزوج من الرجال، لكن لو قدر لي اختيار صديق أفلاطوني (مثالي) ساختار زين العابدين (الإمام الرابع عند الشيعة الامامية علي بن الحسين المعروف بزين العابدين)، فهو يبدو صاحب روح راقية.” تضيف تسوركوف “بالمناسبة، كتبت كل المواد العبرية حول الشيعة الاثني عشرية على ويكيبيديا، لقد كنت مهووسة بالأحاديث الشيعية في مراهقتي.”

هكذا رسمت على تويتر وجهان إضافيان يمكن إضافتهما إلى معرض صور ليزا المتعدد والذي أضيف له بدون إرادتها صورة المختطفة، فهل تُخفي الأيام صوراً أخرى لها؟! الشهادات من الأفراد والمعطيات الرسمية الشحيحة حتى الآن، لا تكوّن قصة متكاملة عن الباحثة الإسرائيلية المختفية. الأسئلة التي لا إجابات عليها حتى اليوم عديدة، وتنبع من جملة معطيات يبدو غريبا عدم التوقف عندها سواء ممن التقوها أو من الأجهزة الأمنية. يمكن أن يكون اسمها الحقيقي فات الناشطين التأكد منه، ولكن اسمها على جواز سفرها ومتابعة ما تقول كباحثة أجنبية يفترض متابعتها، وغير ذلك من أمور يحكى عنها كإجرائها عملية جراحية في إحدى مستشفيات بغداد، وغير ذلك، كلها عناصر تدفع للاعتقاد بأن فصول القصة ما زالت في بدايتها.

عن ليز المختطفة في العراق... إسرائيلية بوجوه عديدة 3
جاده ايران تلغرام
للمشاركة: