الجادّة: طريقٌ في اتجاهين
قراءة طويلة1 مايو 2023 17:09
للمشاركة:

هل كان تجسس علي رضا اكبري سببًا في الكشف عن منشأة “فوردو” النووية؟

صحيفة "نيويورك تايمز" الأميركية تروي القصة الكاملة لنائب وزير الدفاع الإيراني السابق علي رضا أكبري الذي أعدمته طهران قبل أشهر بتهمة التجسس لصالح بريطانيا وتسليم أسرار خطيرة.

في نيسان/ أبريل 2008، سافر مسؤول استخبارات بريطاني رفيع المستوى إلى تل أبيب للكشف عن أمرٍ كبير أمام نظرائه الإسرائيليين: كان لدى بريطانيا جاسوس في إيران يتمتع بإمكانية وصول عالية المستوى إلى الأسرار النووية والدفاعية للبلاد.

بحسب الصحيفة الأميركية، فإن البريطانيين أخبروا الإسرائيليين بأن الجاسوس قدم معلومات قيّمة – وسيواصل القيام بذلك لسنوات – معلومات استخباراتية من شأنها أن تكون حاسمة في إزالة أي شك في العواصم الغربية بأن إيران تسعى للحصول على أسلحة نووية، وفي إقناع العالم بفرض عقوبات شاملة ضد طهران، وفقًا لمسؤولين استخباراتيين.

لطالما كانت هوية ذلك الجاسوس سرية. ولكن في 11 كانون الثاني/ يناير، أدى إعدام نائب وزير الدفاع السابق علي رضا أكبري في إيران بتهمة التجسس إلى الكشف عن شيء كان مخفيًا لمدة 15 عامًا: كان أكبري هو الجاسوس البريطاني.

عاش أكبري طويلًا حياة مزدوجة. بالنسبة للجمهور، كان متعصبًا دينيًا وصقرًا سياسيًا، وقائدًا عسكريًا بارزًا في الحرس الثوري ونائب وزير الدفاع الذي انتقل لاحقًا إلى لندن وتوجه إلى القطاع الخاص، لكنه لم يفقد ثقة القادة الإيرانيين أبدًا. لكن في عام 2004، وفقًا للمسؤولين، بدأ بمشاركة أسرار إيران النووية مع المخابرات البريطانية.

بدا وكأنه يُفلت من العقاب حتى عام 2019، عندما اكتشفت إيران بمساعدة مسؤولي المخابرات الروسية أنّ أكبري كشف عن وجود برنامج نووي إيراني سرّي في أعماق الجبال القريبة من طهران، بحسب مصدرين إيرانيين على صلة بالحرس الثوري الإيراني.

بالإضافة إلى اتهام أكبري بالكشف عن أسرارها النووية والعسكرية، قالت إيران أيضًا إنه كشف هوية وأنشطة أكثر من 100 مسؤول، أبرزهم محسن فخري زاده، كبير العلماء النوويين الذي اغتالته إسرائيل في عام 2020.

لم تعترف بريطانيا علانية أبدًا بأنّ أكبري، الذي أصبح مواطنًا بريطانيًا في عام 2012، هو جاسوسها. قال المتحدث باسم وزارة الخارجية البريطانية للشؤون الإيرانية ويليام آرتشر: “إن سياستنا طويلة الأمد هي عدم التعليق على الأمور المتعلقة بالاستخبارات”.

وذكرت صحيفة “نيو يورك تايمز” في أيلول/ سبتمبر 2019 أنّ مصدر المعلومات الاستخباراتية على الموقع النووي، المسمى “فوردو”، كان جاسوسًا بريطانيًا. كانت المعلومات الاستخباراتية عن فوردو التي قدمها أكبري واحدة من المعلومات التي كشف عنها مسؤول المخابرات البريطاني لنظرائه الإسرائيليين والوكالات الصديقة الأخرى في عام 2008، وفقًا لثلاثة من مسؤولي المخابرات والأمن القومي الغربيين.

وقالت وزارة الخارجية ومجلس الأمن القومي إنهما لا يستطيعان التعليق على الأسئلة المتعلقة بأكبري.

تستند الحكاية التالية لأنشطة أكبري إلى مقابلات مع مسؤولين أميركيين وبريطانيين وإسرائيليين وألمان وإيرانيين حاليين وسابقين في المخابرات والأمن القومي وكبار الدبلوماسيين. طلب البعض عدم الكشف عن هويتهم لأنهم غير مخوّلين بالتحدث بشكل رسمي.

صعود سريع في إيران

كان أكبري، الذي كان يبلغ من العمر 62 عامًا عندما أُعدم، جاسوسًا غير محتمل. أظهر الولاء المتشدد لمُثُلِ الجمهورية الإسلامية، ودعمًا ثابتًا لقادتها، وفقًا لمقابلات مع شقيقه مهدي أكبري وأشخاص عرفوه.

كانت أكثر سماته الجسدية وضوحًا العلامة السوداء على جبهته – وهي علامة على إخلاصه لعقيدة الإسلام الشيعي، تنتج عن الضغط بالجبهة على حجر طيني يستخدم في الصلوات اليومية. لقد تبنّى آراء سياسية متطرّفة، تم التعبير عنها في كتابات وخطابات ومقابلات نارية، ووفقًا لدبلوماسي إيراني كبير ومستشار للحكومة، في الاجتماعات الرسمية، قال إنه يجب على إيران امتلاك سلاح نووي.

قال مهدي أكبري: “كان أخي شديد التديّن وثوريًا للغاية، أكثر من أي شخص آخر في عائلتنا”.

قال شقيق أكبري، الذي وُلِدَ في عائلة محافظة من الطبقة الوسطى في مدينة شيراز، مراهقًا عندما أطاحت الثورة الإيرانية عام 1979 بالنظام الملكي، وتبعتها الحرب مع العراق. بعد أن اشتعل شغفه بالثورة، تم تجنيده هو وأخيه الأكبر، وبحلول الوقت الذي غادر فيه الخطوط الأمامية بعد ست سنوات تقريبًا، كان قد تقلّد أوسمة في الحرس الثوري.

وبالعودة إلى الحياة المدنية، ارتقى أكبري في الرتب، وترقى إلى منصب نائب وزير الدفاع، وتقلّد مناصب استشارية في المجلس الأعلى للأمن القومي والهيئات الحكومية الأخرى. أقام علاقات وثيقة مع رجلين قويين: العالم النووي فخري زاده ورئيس المجلس علي شمخاني.

قال محلل السياسات في إيران والمقرّب من الحكومة والحرس الثوري فؤاد ايزدي: “لقد كان طموحًا للغاية، ومحللًا ممتازًا يتمتع بمهارات فائقة في الكتابة والتحدث، وكان الناس يثقون به.. كان لديه وصول إلى الكثير من المعلومات الحساسة والسرية عن البرامج النووية والعسكرية”.

في عام 2004، وسط شكوك متزايدة في إسرائيل والغرب بأن إيران تسعى سراً إلى برنامج أسلحة نووية، كان أكبري مسؤولاً عن إقناع السفارات الرئيسية في طهران بأنها لم تفعل ذلك، حيث كان يجتمع بانتظام مع سفراء بريطانيا، الصين، فرنسا، ألمانيا وروسيا.

قصة تجنيد وتجسس

في ثمانية مقاطع فيديو قصيرة بثها التلفزيون الحكومي الإيراني بعد إعدامه، قدّم أكبري، وهو يرتدي لباسًا رسميًا وحليق الذقن، ويجلس في مكتب، تفاصيل عن أنشطته التجسسية وتجنيده من قبل بريطانيا في إحدى المناسبات في السفارة البريطانية في طهران. لكن في وقت لاحق، في رسالة صوتية بثتها بي بي سي فارسي – تم الحصول عليها عن طريق عائلته، وفقًا لشقيق أكبري – أكد أكبري أنّ الاعترافات انتُزعت بالإكراه.

لا يزال الدافع وراء تصرّفات أكبري غير واضح. قال في الفيديو إنه كان مدفوعًا بـ “الجشع والسلطة”، رغم أنه نفى أيضًا وجود مشاكل مالية. وتقول إيران إن أكبري خان البلاد واستبدل أسرار الدولة بالمال، في حين تنفي عائلته أنه كان جاسوسا وتشدد على أنّ العديد من التأكيدات في مقاطع الفيديو ملفّقة من قبل الحكومة الإيرانية، بينما يشيرون إلى أنّ العديد من التواريخ والأحداث في مقاطع الفيديو كانت صحيحة.

في مقاطع الفيديو، قال أكبري إنه تم تجنيده في عام 2004، حيث تم إخباره إنه سيحصل هو وعائلته على تأشيرات دخول إلى بريطانيا. وكشف أنه سافر في العام التالي إلى بريطانيا والتقى بمسؤول من جهاز الاستخبارات البريطاني MI6.

على مدى السنوات القليلة التالية، قال أكبري إنه أنشأ شركات واجهة في النمسا وإسبانيا وبريطانيا لتوفير غطاء للاجتماعات مع مع مسؤوله البريطاني. وقالت إيران إن MI6 دفع لأكبري ما يقارب مليوني جنيه إسترليني، أي تقريبًا 2.4 مليون دولار.

وذكر مهدي أكبري إنّ أكبري التقى بالسفير البريطاني في طهران كجزء من وظيفته الرسمية، وسافر إلى أوروبا في كثير من الأحيان للعمل. قال إن شقيقه، مثل العديد من المسؤولين الإيرانيين، بدأ بالتفرّغ إلى العديد من الأعمال التجارية أثناء عمله في الحكومة، وإنه مكتفٍ ماليًا.

وصف مهدي أكبري مشهدًا جلس فيه الأخوان في حديقة في طهران بعد ظهر يوم صيفي عام 2006، وهما يتحدثان عن العمل. عندما اقترح عليه بدء عمل استشاري للنفط والغاز، رفض شقيقه، وأظهر له بطاقة عمل تقول إنه كان عضوًا في مجلس إدارة شركة طاقة في النمسا، وقال إنه “مرتبط للغاية” بهذا المشروع الجديد.

تقاعد أكبري من مناصبه الرسمية في عام 2008، على حد قول شقيقه، لكنه استمر في العمل كمستشار للسيد شمخاني وغيره من كبار المسؤولين.

في وقت لاحق من ذلك العام، اعتُقِلَ أكبري واحتُجِزَ لمدة أربعة أشهر بتهمة التجسس لصالح بريطانيا، وفقًا لشقيقه واثنين من أصدقائه. قالوا إن الاستجوابات لم تُسفر عن اعتراف، وقد دعم أكبري العديد من أصدقائه الأقوياء. قال شقيقه إنه أُطلق سراحه بكفالة، وأُغلقت القضية وسُمح له بالسفر بحرية.

في نيسان/ أبريل 2008، تلقت بريطانيا المعلومات الاستخباراتية عن “فوردو”، وشاركتها مع إسرائيل والوكالات الغربية.

قال يوني كورين، الذي كان مسؤول مكتب وزير الدفاع الإسرائيلي في ذلك الوقت، في مقابلة أجريت معه في عام 2019: “لقد صدمتنا المعلومات المتعلقة بفوردو”.

وتابع: “إن المساهمة الكبيرة للبريطانيين في الجهود الغربية المشتركة لجمع البيانات من داخل المشروع النووي الإيراني كانت دائمًا من مصادر استخباراتية بشرية.. كانت أقدامهم على الأرض في أماكن لا يوجد فيها حضور لنا ولا للأميركيين”.

وسرعان ما تم نقل المعلومات الاستخباراتية التي شاركتها بريطانيا مع إسرائيل في عام 2008 إلى وكالات الاستخبارات الغربية، وفقًا لشخص كان يشغل منصبًا رفيعًا في المخابرات الألمانية في ذلك الوقت. في أيلول/ سبتمبر 2009، في قمة مجموعة الدول السبع في بيتسبرغ، كشف الرئيس الأميركي آنذاك باراك أوباما، إلى جانب زعماء بريطانيا وفرنسا، أنّ “فوردو” كان مصنعًا لتخصيب اليورانيوم.

كانت وكالات الاستخبارات الغربية تدرك منذ فترة طويلة من خلال صور الأقمار الصناعية بأنّ إيران كانت تبني منشأة في عمق الجبال في “فوردو”، لكنها اعتقدت بأنّ الموقع كان منشأة تخزين عسكرية ولم تكن على دراية بتحويله إلى موقع سري للتخصيب النووي.

قال مدير المخابرات الوطنية السابق للشؤون الإيرانية في وكالة المخابرات المركزية الأميركية نورمان رول إن “اكتشاف فوردو غيّر بشكل جذري موقف المجتمع الدولي تجاه إيران”. 

وأضاف أنّ ذلك ساعد في إقناع الصين وروسيا بأنّ إيران لم تكن شفافة بشأن برنامجها النووي ودفع باتجاه المزيد من العقوبات.

حتى بعد توقيفه لفترة وجيزة، وتقاعده من الوظائف الرسمية، واصل مسؤولو وزارة الخارجية طلب المشورة من السيد أكبري، وأبلغوه بالاجتماعات المغلقة بشأن السياسات والمفاوضات النووية، وفقًا لدبلوماسي إيراني رفيع المستوى.

كان السيد أكبري يسافر بانتظام إلى لندن. قال شقيقه إنه أصيب بنوبة قلبية هناك في عام 2010 وبقي هناك. وسرعان ما انضمت إليه زوجته وابنتاه، وحصل في النهاية على الجنسية البريطانية، وعاش من محفظة استثمارية وسافر إلى إيران للحفاظ على الاتصالات مع كبار المسؤولين. وقال أكبري في مقاطع الفيديو إنه زيّف النوبة القلبية من أجل البقاء في بريطانيا.

أكد شقيقه أنه مع ذلك، سافر ذهابًا وإيابًا من لندن إلى طهران ثلاث مرات على الأقل من 2010 إلى 2019، وأقام في منزل عائلي كان يحتفظ به في طهران.

عودة نهائية إلى إيران

في عام 2019، سافر أكبري إلى إيران للمرة الأخيرة بعد أن أخبره شمخاني إنّ البلاد بحاجة إليه في مسألة نووية ودفاعية عاجلة، على حد قول شقيقه.

بعد أيام قليلة من عودته إلى طهران، تم استدعاؤه إلى وزارة الاستخبارات. وقال شقيقه إنه قلق من ذلك، واتصل بشمخاني، الذي أخبره إنّ السلطات سمعت أنه على اتصال بـ MI6 وحثّه على التعاون لإثبات براءته. بعد استجوابات عدة، تم إلقاء القبض عليه.

اكتشفت إيران في وقت ما أنّ أكبري هو مصدر تسريب “فوردو”، بحسب الإيرانيين المرتبطين بالحرس الثوري، وهي المعلومات التي أكدتها المخابرات الروسية. ومن غير الواضح كيف اكتشفت روسيا، وهي حليف وثيق لإيران، المعلومات.

في عام 2020، بعد عام من اعتقال أكبري، اغتالت إسرائيل فخري زاده، العالم النووي، بواسطة روبوت يتم التحكم فيه عن بعد، عندما كان الرجل يقود سيارته إلى منزله في عطلة نهاية الأسبوع في قرية جبلية بالقرب من طهران.

وقال شقيق أكبري إنّ أخيه اعتُقل من قبل وزارة المخابرات، واحتُجز في الحبس الانفرادي لأشهر عدة في سجن تحت الأرض، ثم في سجن “إيفين” سيئ السمعة في طهران. طُلب من العائلة إبقاء الاعتقال طي الكتمان. قال مسؤولون إيرانيون في وسائل الإعلام الرسمية بعد إعدامه إنهم جعلوه يسجل الدخول بانتظام إلى جهاز كمبيوتر قدمه البريطانيون، وإنه تواصلوا مع مشغّل أكبري لتضليلهم.

في كانون الثاني/ يناير، بعد أكثر من ثلاث سنوات بقليل من اعتقال أكبري، بينما كانت إيران تعاني من شهور الاحتجاجات المناهضة للحكومة، وبعد قمع من قبل السلطات وجولة جديدة من العقوبات الدولية، أعلنت السلطات الإيرانية إنّ أكبري هو جاسوس بريطاني. 

من النادر للغاية إعدام كبار المسؤولين في إيران. كانت آخر مرة تم فيها إعدام كبير التكنوقراط في عام 1982. ولكن بعد أيام قليلة من إعلان اعتقال أكبري علانية، اصطحبه حرّاس السجن عند شروق الشمس إلى مساحة خارجية محاطة بسور، وفقًا لمصادر إيرانية ودبلوماسيين. تم وضع حبل حول رقبته، وفي غضون دقائق، كان جسده الهامد يتدلى من حبل المشنقة.

دُفِنَ أكبري في مقبرة واسعة في ضواحي طهران من دون علم أو حضور أقاربه. قالت عائلته إن السلطات أطلعتهم فقط على شريط فيديو يُظهر جسده وهو يُغسل ويُعد وفقًا للشعائر الإسلامية.

وقالت مريم صمدي، زوجة أكبري: “لم يكن بإمكاننا تخيّل هذا أبداً، ولا أفهم السياسة الكامنة وراء ذلك”.

وأدانت بريطانيا طهران لإعدامها أكبري، واستدعت لفترة وجيزة سفيرها وفرضت عقوبات جديدة على إيران.

سُمح لأسرة أكبري بإقامة حفل تأبين في طهران بعد 40 يومًا من وفاته. استأجروا قاعة في مسجد، ورتّبوا سلال زهور بيضاء وقدموا صواني من الحلاوة الطحينية، الحلوى التقليدية التي تُقدَّمُ في الجنازات. جلسوا على الكراسي التي تصطف على الجدران، مستعدين لتحية موكب من أصدقائه وزملائه ومعاونيه من مختلف أدواره في خدمة الجمهورية الإسلامية لمدة 40 عامًا.

قالوا إنّ أحدًا لم يأتِ. حضرت عائلته فقط.

إن المعلومات والآراء المذكورة في هذه المقالة المترجمة لا تعبّر بالضرورة عن رأي جاده إيران وإنما تعبّر عن رأي كاتبها أو المؤسسة حيث جرى نشرها أولًا

جاده ايران تلغرام
للمشاركة: