الجادّة: طريقٌ في اتجاهين

أدب فارسي مترجم: الجنّة لفرخنده آقايي- الجزء الثاني

للمشاركة:

قصة فارسية قصيرة مترجمة

جاده إيران- ترجمة/ ديانا محمود

في رحلة العودة لم يُسمح لميكيل الجلوس في المكان المخصص للمسافرين، كان مجبراً على البقاء على سطح السفينة مع كلبه المترنّح الضجِر بسبب لجام فمه، العابرون بالقرب الكلب كانوا يقتربون منه ويداعبونه.
ميكيل كان يدخّن سيجاراً كوبياً طويلاً غير مكترث بحال كلبه، لو أنّ كلّ عابر ركل الكلب في بطنه لتوقف عن الإفراط في الدلال مع كل هذه الضخامة. وصلنا إلى الشاطئ، ركب ميكيل درّاجته النارية مع كلبه وذهب.
عندما صارحتُ النساء بأنني لا أرغب بأن يكون معلمي رجلاً، قلنَ ليّ إنّ المعلّم الجديد غريب الأطوار ويشبه أخاه ولن يسبب لي الأذيّة، مع أنّهنّ أكّدنَ على كلامي بأنه لا أحد يرغب بمعلّم عازب مهما كان أخوه لميكيل موضع ثقة، ثم همسنَ لي بألا أُخبر ميكيل برأيهن حوله وحول أخيه بأنهما رجلان غريبا الأطوار.
ولكنّي لم أكن ألتقي ميكيل سوى على الشاطئ، وأحياناً كنت أراه عن بعد مع كلبه على درّاجته النارية قادماً أو ذاهباً يلوح لي من بعيد.
عند الغروب كانت تأتي إلى الشاطئ مجموعة من الراهبات يمضين وقتهنّ في المشي، معتمرات قبعات تشبه الزوارق وملابسهنّ محتشمة. إحداهنّ كانت أصغر عمراً، تخلع من قدميها وتمشي حافيةً على الرمال، رافعةً طرف ثوبها بيد وحذاءها باليد الأخرى، تمضي رويداً نحو الأمواج لتُغرقَ طرف ثوبها بالمياه وتعود ثانيةً نحو الخلف.
راقبتهنّ مراراً كي أرى ما إن كنّ يتعرّين على الشاطئ أم لا، لكنّي لم ألحظ أي شيء. ربما كنّ يفعلن ذلك بعد أن يخلو لهنّ المكان.
البرودة تتسلل يوماً بعد يوم وساعات النور تتقلّص، مع ذلك كنّا نجلس قرب البحر تحت الرّهام ونغرق في الأحاديث التي لا تنتهي.
في أحد الأيام جلست معنا ماريا، فتاة نحيفة لوّنتها الشمس بالسمرة. من الناحية الأخرى للشاطئ ظهر ميكيل من بعيد. بدأت النسوة بالضحك والتبسم وأيديهنّ تربّت على الرُّكب. الغيوم تعلو رؤوسنا. اقترب الرجل المسنّ نحونا مع كلبه الملول تلحقه الطيور، غطّى الرمال بمنشفته ونثر فوقها حبات القمح لتلتقطها الطيور المهاجمة. جلس الرجل بهدوء وبدأ الحديث مع ماريا. جوقة النساء شاركن بالحديث: “ماريا تريد أن تتزوج”، تخالطت ضحكاتهنّ. إحداهنّ شدّت شعر الأخرى من الخلف. ماريا كانت ترمي كلامها بعصبية. شفتا الرجل المسنّ كانتا كحركة ضمّة بائسة، فيما تضحك شفاه النسوة في الخلف.
تنهض ماريا من دون وداع، تمضي ويرشقها الرجل بحبّات قمح تتمسّك بخصل شعرها فتهجم نحوها الطيور. يرشقها بحفنة أخرى تغطي شعرها الأسود الطويل. تبعد ماريا الطيور بيديها وتشتم الرجل، لكنّه يُكمل عبثه معها ويحيطها بالقمح من كل جانب، كزوبعة أذرعتها من الطيور تشتاط ماريا السمراء النحيفة غضبا، وتركض كالكابوس الهارب من الساحل وخلفها الطيور تنقر شعرها بحثاً عن القمح. قهقهات النسوة ملأت الشاطئ، كنّ يصفعن وجهوهن بالمجلّات والصحف من شدة الضحك. قلنَ إنّ هذه الحركات هي سبب كره ماريا للرجل المسنّ. ينظرن للساعات، يجمعن المجلّات والمناشف وبقيّة الأغراض المتناثرة، يرتدين ملابسهنّ ويغادرن الشاطئ على درّاجاتهنّ النارية نحو المدرسة بسرعة، معتمرات قبعات مضحكة، من بعيد يلوّحن لي ويمضين.
وصلت مجموعة الراهبات إلى الشاطئ، يبدو أنهن منشغلات بالحديث. المطر بدأ بالهطول والطيور بالرحيل. كان ميكيل يجلس أمام البحر ومنشفته على كتفيه. مضينا معاً أنا وهو وكلبه، الأخوات خلفنا. بدأ الرجل المسنّ بالحديث ولعاب فمه يسيل من بين أسنانه الصفراء، لم أكن أفهم ما يقوله، كان صوته وصوت المطر يخترق المنشفة من على رأسي، والمطر ينهمر بغزارة. عندما وصلنا إلى منزله دعاني إلى الدخول. منزله مكوّن من غرفتين، واحدة في الطابق السفلي والأخرى في العلوي. رفع إصبعه نحو وجهه وأشار لي كي ألتزم الصمت.
فتح باب الغرفة وأدخل الكلب إليها وقال بصوت مرتفع: “لقد جئت يا أمي”. ثم أشار لي بالذهاب نحو الطابق العلوي، كان بابها مفتوحاً وتبدو كخرابة متروكة، فيها سرير مكسور لشخصين، مركون وسط الغرفة، على الحائط المدهون كان هناك صورة عرس قديمة مصفرّة محبوسة في إطار كبير، إلى جانبها صلبان خشبية قديمة وصور لقدّيسين معلّقين بمسامير.
المطر يخترق السقف من جوانبه الأربعة ليصل إلى دلاء متسخة تربصت بالشقوق، لحق بي الرجل المسنّ وطلب منّي الجلوس. أحضر كرسياً مبللاً مكسوراً من الشرفة، وضع فوقه غطاءا، مشّط شعره وتناول سيجاره الكوبي وأشعله. جلس على طرف السرير وقد بدى أكثر إشراقاً وأصغر عمراً. قال لي إنه يريد أن ينظّف الغرفة. أحضر من الحمام علب الدهان واصطحبني إلى الشرفة المسّقفة المطلّة من جهة على الساحل ومن جهة أخرى على المنزل. كان يناديني أحياناً ماريا، ثم يعتذر. يمسك بيدي ويمعن النظر في عينيَّ مطوّلاً. كانت رائحة فضلات الطيور تفوح منه ولعابه يصل إلى وجهي. يفرغ الدلاء من ماء المطر ثم يحدّثني عن مشاريعه الصغيرة في تنظيف المنزل وتحسينه. أخرج من خزانة الملابس المملوءة بالبدلات القديمة حقيبةً مليئة أيضاً بملابس البحّارة. استذكر أيام شبابه، أطلعني على صوره القديمة وهو على السفينة. أمسك بيدي من جديد، أراد مني أن أعده بأن أبقى إلى جانبه. كنت أدرك أنّ عليّ ألا أجيب بنعم أو لا. عليّ أن أفكر قليلاً ثم أجيب مترددة. كان عليّ أن أُظهر له أنني على جدال مع نفسي، وأمنحه فرصة ليتحدث أكثر، فينطلق بالكلام. أراد أن يعرف رأيي ثم عاد ليكرر كلامه. طلب منّي أن أعود لاحقاً بعد أن يرمم الغرفة لأبقى معه. كان عليّ أن أمنحه فرصةً ليعيد تنظيف الغرفة وتلوين جدرانها.
فجأة جاء صوت ينادي: “ميكيل ميكيل”، مع عواء الكلب. وضع أصبعه أمام فمه وأشار إليّ بالسكوت، وذهبنا معاً نحو الطابق السفلي. كان الكلب يقف قرب الدرج، وضع ميكيل يده على رأسه وودّعني. ألصق كفَّي يديه ببعضهما ورفعهما نحو رأسه واتجه نحو غرفة أمه.
الظلام غطى المكان، والمطر ما زال يهطل بقوة. وضعت منشفتي المبللة على رأسي وعبرت نحو الزقاق الحجري الذي يصل إلى منزلي. صعدت السلالم. كنت أشعر بأنّ صندلي مملوء بالأوساخ. كنت أرى الكلاب عند مرورها من هنا وهي توسّخ المكان.
لم تكن نافذة غرفتي تطل على البحر، لكنّي كنت أسمع صرير الرياح فيما تصفع وجهي وخزات البرد من النافذة. لم يكن هناك أحد في المنزل ليسأل أو يتطفّل. غرقت عيوني بالدموع. كنت أرى عيوني الحمراء في زجاج النافذة.
وضعت المنشفة المبللة مرة ثانية على رأسي ومضيت نحو البحر. كانت مجموعة الراهبات تمسكن بمظلاتهنّ ويمضين معاً غارقات في الكلام. كان البحر أسود يعلوه الزبد. تتلاطم الأمواج مع الساحل المملوء بالصَدف. لم أكن أستطع رؤية الرجل المسنّ من على شرفته، لكنّ ضوء غرفته كان يترنح. خلعت صندلي وتقدمت نحو المياه الباردة. كانت باردة أكثر من أي وقت مضى. عبرت الأمواج بصعوبة. كانت منشفتي معي، كنت أعلم أني سأشتاق لها. كانت جديدة وأحبها، ولأول مرة شعرت بالسعادة تتغلغل بي.

جاده ايران تلغرام
للمشاركة: