الجادّة: طريقٌ في اتجاهين

أدب فارسي مترجم: بعد ظهر آخر الخريف/ الجزء الأول

للمشاركة:

قصة فارسية قصيرة مترجمة

جاده إيران- ترجمة/ ديانا محمود

صادق تشوبك – المجموعة القصصية: مسرح الدمى المتحركة – دار جاودان للنشر والطباعة

أدب فارسي مترجم: بعد ظهر آخر الخريف/ الجزء الأول 1

بعد ظهر يوم خريفيّ، تسلّلت أشعة الشمس الباهتة دون حرارة أو بخار من زجاج النافذة، لتستلقي بخط مائل على طاولة الصف والمقاعد الصفراء المتّسخة ومراييل التلاميذ الترابية.
متعبةً كانت الشمس، لا طاقة لها لإبعاد وخزات الهواء البارد الذي يحاصر أوراق الدلب زعفرانية اللون على أطراف الشارع وحديقة الجيران الكبيرة، فيحملها وينثرها من جديد كما يشاء.
تسمّر التلاميذ على مقاعدهم بوجوه خائفة مصفوعة لتوّها، ينظرون من خلف بعضهم البعض بعيون مطفأة نحو المعلّم.
لم يظهر على أشكالهم علامات النضوج، لازالت بحاجة للمسات من الخالق ليجعلها شبيهة بأشكال آبائهم.
بالطبع مَن نحتهم محترف، لم يسمح لأحد بإخراجهم من الورشة ووضعهم أمام الناس، لأنهم سيتجاهلون كل إبداع ليركزوا على الأخطاء فتتشوه سمعته.
مثلاً مكان الأنف يحتاج إلى تعديل، والوجوه تحتاج إلى تفاصيل أكثر في الملامح، النظرات بطيئة وخالية من البريق، كانوا أشبه بالجراء من أطفال البشر، بعض الأشياء لم تكتمل بعد في منظرهم.

المقاعد الثلاثة الأخيرة في الصف، كانت فارغة يغطّيها الغبار ونثار الطباشير. على جانبي اللوح الأسود المنزوع الحواف عُلّقت خارطة إيران من جهة، ومن جهة أخرى لوحة ملوّنة للهيكل العظمي مع عظام سيّئة المقاسات وجمجمة ضخمة يضغط فيها الفكّان على بعضهما الآخر، والعينان مثل فوّهتَيْ بئر لا نهاية له.
في زاوية الصف كومة من الأوراق المكوّرة وحفنة من الطباشير وممسحة لوح من اللباد، مرمية قرب صندوق منخفض الارتفاع مليء بقصاصات الأوراق.
أعلى اللوح تقبع صورة لشبه إنسان، أنفه ضخم جداً وشارباه أبيضان وعيناه تقدحان شرّاً، لا يمتُّ وجهه للرحمة بصلة.
كتفاه كما الصدر مملوءان بالأوسمة التي أعطاها بنفسه لنفسه. مثل نسر أعلى حقل بطيخ، كانت صورته منتصبة على الحائط فوق اللوح تنوّر بحضورها التلاميذ.
طاولة المعلّم كانت أعلى من بقية الطاولات، عليها دفتر كبير لتفقد الحضور والغياب، دُوِّنَ فيه أسماء التلاميذ، إلى جانب كأس زجاج روسية طويلة غُرِس في قعرها غصنان من ورد النرجس خطف الموت رائحتهم ونضارتهم، ودواة زجاجية.
في زاوية الغرفة مدفأة تعمل على الفحم وداخلها سيخ ومجرور للتراب، وسيخ آخر يحرّك النار، يتصاعد منها الدخان.
هنا الصف الثالث، المعلّم يشرح الدرس ويحرّك في يده المسطرة المتسخة وكأنها برصاء، فجأةً أمسك المسطرة بين إبهامه وكفّ يده ورفع يديه نحو وجهه وقال بصوت عالٍ “في الركعة الثانية بعد أن نقرأ الحمد وسورة أخرى نرفع كفّي اليدين لتصل إلى الوجه ونقرأ الدعاء التالي “(ربنا آتنا في الدنيا حسنة)، ونقول لهذا الفعل القنوت، كما يوجد أدعية أخرى يقرؤها الناس في القنوت كقولهم (ربنا اغفر لنا ذنوبنا وإسرافنا في أمرنا وثبّت أقدامنا وانصرنا على القوم الكافرين)، لكنّكم لا تحتاجون إلى هذا الدعاء، إقرأوا فقط ما كُتِبَ في كتابكم، ثم تقومون بالركوع والسجود في الركعة الأولى”.
فجأة، وسط كلامه توقّف عن الحركة، وتجمّدت يداه أمام وجهه، ثم استشاط غضباً، وأخذ ينظر بحمق نحو مقعد أصغر سبوريان، والأخير غارق في النظر نحو الشارع، ولكنَّ الهدوء الذي سيطر على الصف للحظات أعاده إلى الدرس، فالتفت بسرعة نحو الصف فرأى الجميع ينظر نحوه بعيون مدهوشة معاتبة مذهولة.
أبعد المعلم يداه عن وجهه بهدوء وسحب المسطرة من بين يديه ومسكها بإحكام وبدأ بالصراخ: “شو سبوريان الحمار! شو يا ابن الكلب وين مخك؟ وينك كنت غرقان؟ لمين كنت قاعد عم أشرح؟ مو مشانك؟ مو مشان ما تعفس بكرة بالفحص؟ بس أنت مخك مشغول، أنا قاعد بقرألو ياسين وهو بيصفن بالشارع، شو هو الشي اللي بالشارع اللي أهم من كلام الله؟ فيل عم يطير مثلاً؟ ما هيك؟ شوفو منظرو متل الزبّالين، إي كتير رح تطلع ع الصف الرابع، إي بأحلامك، بكرة بتجي لهون قدام كل الطلاب بتصلّي صلاة كاملة، وإذا بتغلط بحرف واحد بتقدم أو بتأخّر رح أخلعلك أظافرك”.
لوّح المعلّم بالمسطرة في الهواء نحو أصغر، وكأنّه يضرب الهواء نفسه، بصعوبة كانت عيناه تلمعان من خلف عدسات النظارة المكبّرة وهما محمرّتان وغارقتان في الحقد، فيما كانت تجاعيده تتموج في وجهه.
أمعن النظر في وجه أصغر لبرهة ثم شعر بالندم، يبدو الصبي الصغير أكثر بؤساً من بقية زملاءه، فتذكّر أنّ أمّه تعمل غسّالة في بيوت الناس لتطعم ابنها وابنتيها.

جاده ايران تلغرام
للمشاركة: