إيران وطالبان.. مواجهه أم احتواء؟
في ظهر الثلاثاء 7 من نيسان/ أبريل، دخل شاب أفغاني یبلغ عمره 21 عاماً مرقد الإمام الرضا في مشهد، مخبّئاً سکیناً کبیراً ويبتغي تنفيذ عملیة أشغلت المجتمع الإيراني من جدید في قضیة حركة طالبان واللاجئین الأفعان.
عند الساعة الثانية بعد الظهر تقريباً، أخرج الشاب الأفغاني السکین من تحت ملابسه وهاجم ثلاثة علماء دين من الشیعة في أكبر باحات الحرم الرضوي. کما أظهرت التقاریر لاحقاً أنّ المستهدفين الثلاثة لم یتم اختیارهم بالصدفة.
وبعد ساعة من اعتقال الشاب الأفغاني الذي نشرت وكالة “تسنيم” اسمه وهو عبد اللطيف مرادي، أعلن محافظ مشهد في حوار مع قناة “الخبر” عدم وجود معلومات خاصة عن الشاب وأنه بات في قبضة رجال الأمن.
ورغم أنّ المصادر الرسمیة فی إيران حاولت تجنّب الحديث كثيراً عما حصل خوفاً من إثارة الأجواء بین الإيرانيين والأفغان أو بین الشیعة والسنّة، لکن لاحقاً تم تسریب بعض التفاصیل المهمة، كالمنطقة التي تعرّف فیها القاتل علی الضحایا أو الأنشطة التي کان علماء الدین الثلاثة یقومون بها.
تقول الروایة الرسمیة إنّ المستهدفين کانوا ناشطين في الأعمال الخیریة، لکن المنطقة التي کانوا ینشطون فیها (بلدة الشهید رجایي في ریف مشهد) تظهر أنّ أعمالهم قد تتجاوز الأعمال الخیریة البسيطة.
منذ مطلع العقد الماضی، حذر الکبار من علماء الشیعة في مدینتي قم ومشهد، منهم آية الله مکارم شیرازي، من ظاهرة زیادة أعداد السنّة في أرياف مشهد، حیث یلجأ إليها الملایین من اللاجئین الأفغان.
ويسيطر على هذه المناطق الحرمان من أبسط البنی التحتیة اللازمة للحیاة المدنیة، كما يتفشى الفقر هناك بشکل متزاید. ویعتقد جزء من علماء الشیعة فی إيران بأنّ السعودیة وبعض المدارس الدینیة في باکستان هما من تقفا خلف المحاولات الممنهجه لتغییر النسیج الطائفي فی أرياف مدینة مشهد وإنشاء قطب سنی في ركنٍ من أركان الشیعة التاریخیة.
ومنذ عام 2014، أطلقت الحکومة الإيرانية مقراً “لتنظیم القضایا الثقافیة في أرياف مشهد” برعایة المؤسسات التابعة للقائد الأعلى الإيراني علي خامنئي، وإشراف مباشر من رجل الدين المثير للجدل أحمد علم الهدی الذي يؤم الجمعة وينوب عن القائد خامنئي في تلك المدينة.
ومن خلال نشاطات هذا المقر، تم بناء مئات المساجد (حسب التقاریر غیر الرسمیة أكثر من 400 مسجداً) والمراکز الثقافیة الدینیة وقواعد قوات الاحتياط – الباسیج – خلال أقل من 10 سنوات.
یتشکل الجسم الرئیسي لهذا المقر من قوات الحرس الثوري وعلماء الدین الشیعة الذین یقومون بأعمال خیریة (کتوزیع الغذاء والدواء ومعالجة المشاکل المحددة لسکان المنطقة).
واعتُبرت النتائج مرضیة بالنسبة للحکومة الإيرانية والحوزات الشیعیة، حیث شکر آية الله مکارم شیرازي الحکومة والمؤسسات المعنیة عام 2017 علی اهتمامها بالقضایا الثقافیة في مشهد.
وقال: “أثبت تواجدنا الجريء للوهابية أنّ مشهد لیست مكاناً للفتن. لکن حدث في الجوار الشرقي لایران ما غیّر ذلك المسار وأبقى القلق حیاً؛ انتصار طالبان وتهمیش حلفاء إيران التقلیدیین في شمال أفغانستان وسيطرة الحرکة علی کابل”.
واستغرب الکثیر من النشطاء والمحللین کیفیة تعامل إيران مع حرکة “طالبان” بعد تولّيها الحكم في أفغانستان وسیطرتها علی العاصمة، لا سيما أن حادثة مزار شریف التي أدت إلى مقتل الدبلوماسيين الإيرانيين على يد أعضاء الحرکة بطريقة وحشية عام 1998 لا تزال حیة في الأذهان وتلعب دوراً حاسماً في تحدید الصوره العامة للحركة لدى الرأي العام الإيراني.
في الوقت ذاته، أدى تغير الظروف مقارنة بتلك الفترة، إلى عدم وجود موقف موحد في طهران تجاه تنظيم طالبان، وانقسم السیاسیون وحتى القادة في البلد بشأن کیفیة التعاطي مع الملف الأفغاني إلى تيارين.
وبینما یعتبر التیار الأول طالبان تهدیداً للأمن الإيراني، یرى آخرون أنّ الحرکة تمثل فرصة لإيران بسبب عدائها للولايات المتحدة ومساهمتها في کسر الهیمنة الأميركية في الشرق الأوسط، ويدعون للبحث عن حلول وسطیة لاحتواء “طالبان” أو حتی التنسیق معها بدل مواجهتها، وربما بناء تحالفات مستقبلیة معها حول القضایا المتفق علیها إقليميا.
ورغم أنّ التیار الأول یضم شخصیات سیاسیة ودینیة مهمة (أغلبهم من الإصلاحيين والمعتدلین)، لكنّ انحياز القائد الأعلى الإيراني إلى جانب فيلق القدس للتيار الثاني غیّر التوازن کلیاً.
واشتدت المواجهة بین انصار التیارین خلال معرکه بنجشیر؛ حیث کانت الشخصیات المقربة من الإصلاحيين والمعتدلین تنادي بدخول ایران في المعركة مباشرة أو بشكل غير مباشر من أجل مساعدة حلفاء طهران التقلیدیین في شمال أفغانستان وإنقاذ المقاومة في بنجشیر بقیادة أحمد مسعود لتحجیم قوه “طالبان”.
لکنّ الحکومة رفضت هذا الخیار، مبقية على مسافة بينها وبين الاعتراف الرسمي بحكم الحركة لكابل، مع ذهابها لإنشاء علاقات اقتصادية واستئناف الصادرات التي توقفت بعد خروج الجيش الأميركي من مطار کابول.
وکان أحد المحاور الرئیسیة في خطاب معارضي السیاسة الرسمیة لإيران في أفغانستان هو احتمال انعدام الأمن وإثارة الفتن المذهبیة في المحافظات الشرقیة (وتحدیداً مشهد) بعد وصول “طالبان” للسلطة.
ومن هنا خرجت شخصیات مثل الرئیس السابق حسن روحاني أو الرئیس السابق للبرلمان والذي تم رفض أهليته للانتخابات الرئاسیة الأخيرة علی لاریجاني عن صمتهكا بعد التفجیر الإرهابي في المسجد الشیعي الواقع في مدینه قندوز الأفغانية، والذي راح ضحیته أكثر من 105 ضحايا.
وکتب لاریجانی علی حسابه في تویتر: “هذه الجریمة کشفت عن الهویة الشریرة التي تم تنظیمها موخراً في افغانستان. إنّ هذه التطورات تستدعي یقظة أعمق لحمایة المصالح الوطنیة والأمن الإيراني”.
وعلی الرغم من أن التیار السائد في إيران، بذِلَ جهدًا کبیر لإبعاد القضیة الأفغانية عن الأضواء وعودة الهدوء إلى الأوساط السیاسیة، إلا أنّ حادثة اغتیال علماء الدين فی مشهد أعادت الجدل من جديد.
وخلال الأيام الماضیة، انتشر عدد من التقاریر والفيديوهات عن اضطهاد اللاجئین الأفغان في إيران، تشیر لهجات المتحدثين فیها إلى أنّ الاضطهاد واقع في المحافظات الشرقیة، هذا في حين خرج بعض القادة العسکریین من “طالبان” یهددون الإيرانيين والنظام الإيراني بالانتقام رداً علی انتهاكات بحق اللاجئين الأفغان.
کما أنّ الکثیر من السیاسیین والنشطاء في کلا البلدین عبروا عن قلقهم بشأن التصعید العرقي أو الطائفي بین الشعبین وتداعیاته المحتملة على المنطقة. حيث لم يمض وقت طويل قبل أن تظهر بوادر من هذا التصعيد الذي يخشاه هؤلاء، فقد أعلن التلفزيون الإيراني الاثنين 11 نيسان/ أبريل، أن متظاهرين هاجموا القنصلية الإيرانية في مدينة هرات الأفغانية وحرقوا البوابة الرئيسية لها، مشيرًا إلى أن عناصر طالبان حاولت تفريق التظاهرات عبر إطلاق النار في الهواء.
الخارجية الإيرانية، عبر المتحدث باسمها سعيد خطيب زاده، سارعت للتأكيد على وجود توفير الأمن الكامل لسفارات وبعثات جمهورية إيران الإسلامية في هرات ومدن أفغانستان الأخرى بشكل كامل وتوفير الضمانات اللازمة للتشغيل الآمن لهذه البعثات. واعتبرت أن نشر بعض المقاطع والتعليقات يهدف لرهاب إيران أو أفغانستان، ذاكرةً أ،ها تستهدف مشاعر شعبي البلدين وهذا يتطلب مزيدًا من اليقظة من الشعبين والمسؤولين في البلدين. كذلك، نفى السفير الإيراني في كابول “بهادر امينيان”، صحة الشائعات حول سوء التعاطي مع المهاجرين الأفغان المقيمين في إيران، لافتًا إلى أن الهدف من هذه الشائعات هو المساس بالعلاقات بين طهران وكابول. وأضاف امينيان أن المشاهد المصورة والشائعات التي اظهرت سوء التعامل وإيذاء المهاجرين الأفغان في إيران، روج لها بتوجيه زمرة “المنافقين”. منوهًا إلى أن هناك عناصر تابعة لهذه الزمرة الارهابية، تتعمد باستمرار انتاج هكذا مشاهد مزيفة ترمي إلى الإخلال بالعلاقات الإيرانية الأفغانية.
على ضوء ما سبق، فإن الأشهر المقبلة ستظهر أي من التيارين الإيرانيين كان يمتلك الرأي الأصوب بخصوص التعامل مع اللاجئين الأفغان و”طالبان”، وستوضح إن كانت ستنجح إيران باحتواء الحرکة وبناء تحالفات تكتيكية معها ضد واشنطن في المنطقه، أم أنّ ثمانية ملایین من اللاجئین والمهاجرین الأفغان سیتحوّلون إلى معضلة جدیدة للأمن الإيراني.