الجادّة: طريقٌ في اتجاهين
قراءة طويلة7 مايو 2024 10:29
للمشاركة:

مذكرات ظريف “طاقة الصبر”.. سنوات “الشفاه الباسمة والكبد الدامي” الثمانية

يلخّض وزير الخارجية الإيراني السابق محمد جواد ظريف في مقدّمة كتاب مذكراته “پایاب شکیبایی” أي “طاقة الصبر” رؤيته العامة وظروفه الشخصية التي حكمته في التأليف، فيذكر على سبيل المثال إنه كان قد اختار عنوانًا آخر لكتابه يدلّ على تناقض وجهه المبتسم مع داخله الحزين خلال سنواته الوزارية، كاشفًا أن انصرافه عن ذلك الاسم جاء لأسباب عديدة تتعلق بالمستقبل الذي ينتظره ويؤمن به.

وفي ما يلي ما جاء حرفيًا في مقدمة الكتاب:

بدأ العالم بعد الحرب الباردة في أوائل التسعينيات حقبة جديدة مليئة بالتوترات والاضطرابات، حيث أنّ البنية الجامدة والبالية التي ميّزت عصر الثنائية القطبية، التي نظّمت العلاقات العالمية وجعلت سلوك الدول ومواقفها قابلة للتنبّؤ، أفسحت المجال لانتقال العالم إلى ظروف مرنة وغير منظّمة، حيث أصبح التنافس شرسًا ومخيفًا بين الفاعلين لتحقيق مكانة متفوّقة، وتحقيق الإنجازات، إلا أنّ هذا التنافس لم يؤدِّ إلى حرب بين القوى العظمى، كما حدث في الحقب الانتقالية الماضية، لكنّ ذلك لا يعني أنّ السلام والوئام سادا العالم.

إنّ دخول الجهات الفاعلة غير الحكومية في مختلف الأنشطة العالمية، من الاقتصاد والتكنولوجيا إلى الأمن والصراعات خارج الحدود، أدى إلى تراجع القدرة على التنبؤ في العلاقات الدولية. وبذلك واجهت العلاقات الدولية  تحدّيًا جديدًا للمرة الأولى بعد صلح وستفاليا (15 أيار/ مايو 1648) الذي أنهى حرب الثلاثين عامًا في أوروبا، ونظّم العلاقات الدولية على أساس تعزيز التواصل بين الدول ذات السيادة.

وكما يقول جيمس روزنو، فإنّ هذا التحدي الجديد نقل العلاقات الدولية إلى العصر ما بعد العالمي، حيث خرج الفاعلون في المجال الأمني والعنف المنظّم خارج الحدود عن سيطرة الحكومات، وفي الوقت نفسه، أصبحت مصادر القوة أكثر عددًا وتنوّعًا من ذي قبل، وإلى جانب القوة المادية، وجدت القوة المعنوية والتحفيزية أيضًا مكانًا خاصًا في تعزيز أهداف ومصالح البلدان.

لقد حدّد الاتحاد الأوروبي تعاونه في فترة ما بعد الحرب الباردة في سياق معياري، بل وتمكن من التفوّق في قضايا مختلفة، من إنشاء المحكمة الجنائية الدولية إلى التحدي النووي الإيراني، بالتعاون مع القوى العسكرية العالمية العظمى، وحليفته القديمة الولايات المتحدة الأميركية.

لقد انتقل مركز القوّة والثروة العالمية من شواطئ المحيط الأطلسي إلى شواطئ المحيط الهندي والمحيط الهادئ، وفي عام 1924، كانت خمس دول من أوروبا ضمن قائمة القوى الاقتصادية العشر الأكبر في العالم، بينما كانت دولتان فقط هما اليابان والصين من آسيا في هذه القائمة. وبحسب توقعات البنك الدولي وصندوق النقد الدولي، فإنه خلال السنوات المقبلة، ثلاث دول أوروبية فقط ستكون في قائمة الاقتصادات العشرة الأكبر في العالم، فيما ستصبح أربع دول آسيوية بين القوى الاقتصادية الخمس الكبرى.

إنّ القلق الأميركي من صعود الصين دفع الولايات المتحدة إلى شنّ حملات أحادية الجانب طيلة 14 عاماً، لكنها بعد الفشل في إخضاع العالم إلى نظام أحادي القطب بقيادة الولايات المتحدة، اختارت تغيير سياستها ونقل تركيز الوجود الأميركي من أوروبا والشرق الأوسط إلى الصين كأولوية أولى للحكومات الديمقراطية والجمهورية في الولايات المتحدة.

لقد فقد الغرب موقعه المركزي في أحداث العالم، وكما خلا القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين من الأحداث العالمية المؤثرة، فكذلك فقد الغرب احتكار الدور الفعّال في الأحداث العالمية.

وفقًا لاجتماع ميونيخ الأمني عام 2016، فإنّ العالم دخل حقبة ما بعد الغرب، ذلك على الرغم أنه قبيل بدء الحرب في أوكرانيا، حظيت قضية “فقدان الغرب” باختيارها كقضية مركزية لاجتماع ميونيخ الأمني عام 2020، حيث حظيت بتغطية كبيرة على مستوى العالم وتحوّلت إلى خطاب. وبالطبع، فإنّ الحرب في أوكرانيا وتعزيز التحالف الغربي تحت مظلّة حلف شمال الأطلسي وقيادة الولايات المتحدة أظهرا أنه لا يوجد ما هو حتمي في تحوّلات العال  الجارية حاليًا، ولا يوجد مستقبل لا مفر منه، كما أن دور الفاعل في التدمير الصلب والجاف للمنظومة السابقة بارز جدّا.

وأخيرا، أصبح الإنسان هو الفاعل الأكثر أهمية في المستقبل والحرب والسلام. كما شهدت السنوات القليلة الماضية ظهور جهات فاعلة جديدة غير حكومية، خاصة في مجالات الذكاء الاصطناعي والأسلحة الذكية، إلى جانب تنوّع الموارد وكثرتها وانتقال مراكز القوة، مما جعل أساس العلاقات الدولية منذ صلح وستفاليا حتى الآن، تواجه تحدياً خطيراً، حيث خرجت العلاقات الدولية من السيطرة الأحادية والثنائية القطب، وحلّت التحالفات المؤقّتة محلّ التحالفات الدائمة التي كانت تحت مظلّة هيمنة ودعم أقطاب القوة العسكرية في العالم، ولذلك فإنّ الولاء الحصري لقطب أو آخر، والذي كان ضرورياً لاستمرار العالم القائم على أقطاب القوة، أصبح بلا معنى. وهكذا، يبدو أنّ الفترة الانتقالية للعالم قد انتهت، ولا جدوى من البحث عن طريقة لصعود قطب أو قطبين جديدين أو قديمين للسلطة؛ لأنّ عودة العالم القائم على القطب أصبحت مستحيلة، وبدأ يتشكّل عالم ما بعد القطب الواحد.

في عصر التحوّل أو عالم ما بعد القطبية، حيث التحوّلات كثيرة وسريعة، فإنّ قيمة ومعرفة وقياس التحوّلات العالمية الدقيقة والعميقة يمكن أن تحدّد المسافة بين تدمير أو زيادة قدرات فاعل حكومي أو غير حكومي، ولذلك فإنّ اتخاذ وصنع القرار في العلاقات العالمية في مثل هذه الظروف أصبح أكثر حذرّا وذكاءً لدى جميع الأطراف الفاعلة، كما أنّ الحاجة إلى صدق وشجاعة الفاعلين في نقل الحقائق إلى صنّاع القرار وأصحاب السلطة تحوّلت إلى أكثر الأمور أهمية في مجال السياسة الخارجية.

إنّ الجمهورية الإسلامية الإيرانية في الفترة الانتقالية بالأمس وعالم الغد ما بعد القطبية ليست مجرّد ملف من العلاقات الدولية والنشاط بين القوى العظمى كما كان الحال في الفترات الانتقالية السابقة، لأنه يمكن لإيران أن تكون لاعباً فعّالاً ليس فقط في بناء موقعها المستقبلي، بل وأيضاً في تشكيل الاستقرار الإقليمي وأكثر من ذلك. وفي العصر الحالي انتهت الحتمية البنيوية، واكتسب الفاعلون مكانة متزايدة، وفي الوقت نفسه أصبحت مصادر القوة عديدة ومتنوّعة، ولذلك أصبحت قوة الدبلوماسية بمجالاتها التقليدية والحديثة إحدى الركائز التي تشكّل قوّة الدول، وخاصة إيران التي تلعب فيها الدبلوماسية إلى جانب مصادر القوة الأخرى دورًا هاماً في تحسين مكانة إيران وتأمين مصالحها الوطنية على المستوى العالمي.

وعلى هذا الأساس، آمل أن تكون الدراسة الدقيقة للفرص والتحديات التي واجهتني خلال فترة وزارتي التي استمرّت ثمانية سنوات كوزير خارجية للجمهورية الإسلامية الإيرانية، بمثابة دليل للاستفادة المثلى من الفرص، والتعامل المناسب مع التحديات وتجنّب تكرار الأخطاء، وعلينا أن لا ننسى أننا  حين نعيش في التاريخ،  فإننا نقف على أكتاف الماضي، نراقب أنفسنا ونراقب العالم، نخطط ونعمل.

في تاريخنا، كان للحوار مكانة خاصة، وقد حظي بجزء كبير من الحياة المثمرة لقادتنا الدينيين في السابق، وحتى الآن، وكذلك عندما كانوا محاصرين في سجون الظالمين، فقد استفادوا من أصغر الفرص والأوقات للحوار. لقد كان الإيرانيون والشيعة من روّاد الحوار في الحضارة الإسلامية بدوافعهم الثقافية والمعرفية والمنفعية.

لقد بدأ الإسلام بأمر القراءة باسم رب العلم والقلم، وكان العصر الذهبي للحضارة الإسلامية مدينًا للتشيّع والحركة الناعمة للإيرانيين، وارتقى الإسلام بتفوّق القلم والفكر على السيف، وتآكل بسيادة منطق السيف على منطق القلم والحوار.

إنّ التشيّع مدين بحياته قبل كل شيء إلى العقل والعدالة والحوار، هم يمثّلون الركائز البارزة لقوّته.

ومن هنا، يتوجّب على الجمهورية الإسلامية الإيرانية بناء مكانتها العالمية في العالم الانتقالي اليوم وعالم ما بعد القطبية، والعمل نحو نظم واستقرار المنطقة والنظام العالمي عبر الفهم الصحيح لقدراتها ونقاط قوتها وضعفها التاريخية، المادية والمعنوية، والعمل على توسيع مشاركتها باتباع نهج الحوار والتواصل والدبلوماسية، لأن هذه النهج من أبرز سمات وركائز الحضارات، وخاصة الحضارة الإسلامية، لا سيّما أنّ المكانة الحضارية تعني القدرة على تلبية الاحتياجات المتراكمة للناس. ومن ناحية أخرى، ينبغي تحويل الموقف من الهوية والتراث التاريخي إلى وعي وطني، وتحقيق التوافق الوطني والمواءمة الفكرية والبنيوية بين المؤسسات والسلطات في هذا الصدد، وهو أمر بعيد المنال أيضًا دون حوار.

إنّ الغرض من تأليف هذا الكتاب، الذي يمثّل تاريخ ثماني سنوات من الدبلوماسية الإيرانية، وانطباعًا عن أربعين عامًا من العلاقات الخارجية للبلاد، هو أن تستفيد منه الأجيال المقبلة لتحقيق إدارة أفضل ودبلوماسية أكثر كفاءة. والشرط الأساسي لتحقيق هذا الهدف هو تجاوز القراءة البسيطة للأحداث واتباع أسلوب التدقيق والتساؤل الذكي، وبهذه الطريقة فقط يصبح تعلّمنا الحالي مدّخرًا للتعلّم والبصيرة للمستقبل، ومن المؤكد أنّ الأمم والحكومات التي لا تتخذ موقفًا دقيقًا في التعامل مع بقايا الماضي، ولا تقرأ الماضي بحكمة سوف تعيد أخطاءه وزلّاته.

واليوم، بعد مرور عامين على آخر يوم لوزارة الخارجية، هذا أقل ما يمكن قوله عن ثمانية سنوات من “الشفاه الباسمة والكبد الدامي”، إلى جانب بعض الآراء الشخصية الأكاديمية والتنفيذية عن العلاقات الخارجية، كما أعتذر عن التقصير لشعب إيران الشجاع والأجيال المقبلة، وقد أردت أن أسمّي الكتاب “الشفاه المبتسمة والكبد الدامي” تخليدًا لذكرى معاناة ثماني سنوات من الخدمة، ولكنني خشيت أن يكون اسماً ميؤوسًا منه، ولا يتماشى مع نظرتي لمستقبل إيران الواعد الذي سيبنيه صنّاع المستقبل من جيل الشباب بعون الله، لذلك، اخترنا أسما آخر للكتّاب يعبر عن الحاجة للصبر مع الأمل، وذلك بمساعدة الصديق الأديب والمثقف مهدي دانش يزدي، وبإلهام من الغزل الرائع للشاعر حافظ، الذي ربما هو مأخوذ من طاقة الصبر والانتظار لملهم الوجود، وهو الأمل في ظهور منقذ البشرية الإمام المهدي (أرواحنا فداه)، وكذلك بسط المحبة والتعايش في الخلق.

حاولت في هذ الكتاب ألا أنسى الحقيقة والصدق والصراحة، حتى أتمكّن من التحليل والنقد البناّء والذكي للباحثين والطلاب وغيرهم من المهتمّين بتاريخ ومصير البلاد، ولا شك أنّ الكتاب لا يخلو من التقييم والنقد والمراجعة، وكذلك العمل على مدى ثماني سنوات من المسؤولية لم يخلو من سوء الفهم والزلل. لقد اعترفت في هذا الكتاب بالعديد من الأخطاء والزلّات المعرفية والوظيفية، ولا شك أنّ الأمثلة أكثر من هذه بكثير، لكنني آمل أنّ باحثي اليوم والمستقبل سيقومون بتقييم هذا الكتاب بعد دراسة عميقة، وسيتم الاستفادة من دروسه في المجال العملي لمنع تكرار الأخطاء والزلّات.

وفي النهاية، أود أن أشكر الأشخاص الذين ساعدوني في إعداد وتأليف هذا الكاتب وهم: الأخ والزميل العزيز الدكتور محمد مهدي راجي (الذي أعدّ بقلمه الرائع كتاب السيّد السفير سابقًا)، كما أشكر السادة  الذين ساعدوا في الإشراف والملاحظات، ولا سيّما الأساتذة السيد علي موجاني، د. محمد كاظم سجاد بور، د. مجيد تخت روانجي، د. عباس عراقجي، الأستاذ مهدي دانش يزدي، الأستاذ باقر اسدي والسيدة الدكتورة شاه محمدي، كما استفدت من صور الزميل المصوّر الماهر حميد ميردامادي، لكنني الوحيد والوحيد الذي أتحمل مسؤولية ما جاء في هذا الكتاب من حديث أو أخطاء، على أمل أن يكون هذا العمل سعيًا موفّقًا نحو مستقبل إيران المشرق.

للإطلاع على أبرز ما أورده ظريف في كتاب مذكراته إضغط هنا

جاده ايران تلغرام
للمشاركة: