إيران والردع المضطرب: المساحات الرمادية تضيق
صباح السابع من تشرين الأول/ أكتوبر ٢٠٢٣ بتوقيت طهران، يرنّ هاتف أحد كبار الضباط المسؤولين عن الملف الفلسطيني في "قوة القدس" التابعة للحرس الثوري. عشرات التنبيهات في أقل من ساعة. ظنّ أن عطلا ما أصاب تطبيق إنذارات الصواريخ الإسرائيلي "تسوفار" المثبت في هاتفه. اتصال من صديق له يعمل في ذات القوة ببغداد، يمطره على الفور بوابل من الأسئلة حول ما يجري في غلاف غزة وكيف حصل ما حصل، وما هو سقف الهجوم.
للوهلة الأولى ظن الضابط الكبير أن صديقه يمازحه، لكنه تذكر الإشعارات، فتدارك مباشرة “ربما يكون هناك مشكلة في التطبيق الذي نصحتك بتثبيته، وجدت الكثير من التنبيهات”. لكن الرجل الذي على الهاتف من بغداد قاطعه: “لا ليست الإشعارات، انظر الصور والفيديوهات القادمة من مستوطنات غلاف غزة، هناك شيء كبير يحدث، وإن لم تكن على علم بما يحدث فعليك أن تنهض وترى ماذا تفعل، يبدو أن الفلسطينيين أطلقوا الهجوم الأكبر على إسرائيل في تاريخ الصراع”.
لم يكن أحد ليصدّق أن الطوفان كان مفاجئا لإسرائيل وإيران وحزب الله وقطر وتركيا وأميركا والعالم بأسره على حد سواء، وفق تعبير مصدر حمساوي في دردشة بعد شهر من الهجوم. هذا المصدر يستطرد قائلا: “كان مفاجئا حتى لقيادة حركة حماس السياسية التي وردتها الأنباء من غزة تباعا أن شيئا كبيرا يحدث”. ما حدث حقيقة هو أن محمد الضيف ويحيى السنوار وضعا الجميع أمام الأمر الواقع، ومنذ تلك اللحظة دخلا مساحة الاختفاء الكامل مع تفعيل نظام الحرب المفتوحة مع إسرائيل، بينما الحلفاء والأعداء في حيرة استراتيجية تجعلهم يتعاملون مع لحظة الحقيقية على قاعدة كل يوم بيومه، بعيدا عن الخطط بعيدة الأمد وشعارات التحرير والصواريخ التي يمكن أن تدمّر حيفا في سبع دقائق.
بين طهران وبغداد ودمشق وبيروت وصنعاء خط ساخن، زادته الأحداث سخونة خلال الأسابيع الأحد عشر الماضية. غرفة حرب تدير العمليات من بيروت، خلطة هجمات متعددة الأشكال في ظل تفوق جغرافي لما يعرف بمحور المقاومة. بغداد ترفع سقف التصعيد مع الأميركيين، بيروت تشاغل الإسرائيليين، صنعاء تمارس الجنون البحري باحتراف، ومن سوريا التي اكتفت بالموقف الإعلامي الداعم تُطلق بين الفينة والأخرى صواريخ ومسيرات معدودة، وتتحول مع الوقت لمسرح آخر لتصفية الحسابات على مستوى الإقليم بين إسرائيل وإيران. اغتيال سيد رضي موسوي أخيرا خير دليل على ذلك. مع ذلك تبقى الجبهة اللبنانية أكثر الساحات إثارة للقلق الإقليمي بحكم التهديدات الإسرائيلية بتوسيع المعركة، وتحويلها إلى حرب بحد ذاتها، وأيضا لما تحمله من خلاصات لليوم الذي سيلي الحرب، متى ما جاء هذا اليوم.
بضع خطوات إلى الخلف، المشهد من طهران يبدو متداخلا جدا. ربما كان مفاجئا في الأيام الأولى، لكن إيران اعتادت مع الوقت الصورة القادمة من الإقليم، وها هي للمرة الأولى منذ اطلاقها ما اسمته “محور المقاومة” ومؤخرًا بدأت تطلق عليه “محور القدس”، تشاهد من مسافة أمان نسبي كيف تعمل أضلاع هذا المحور في وقت واحد وبوظائف مختلفة. تجربة جديدة تبدو واعدة عسكريا، رغم أنها تتم بغياب عرّاب المحور قاسم سليماني، وللمرة الأولى تكون القيادة بيد غير إيرانية. بالنسبة لأصحاب القرار في طهران الصورة مغرية ومربكة في آن، لا سيما في ظل اعتياد كبار المسؤولين الإيرانيين، من عسكريين وسياسيين على التصريحات النارية، التي باتت الآن أمام لحظة الحقيقة المرّة. فالصديق قبل العدو بات يحاكم إيران والمحور الذي تقوده على أساس ما سلف من تهديدات نارية كانت تخرج على الملأ من غير مكان، وأمام المجزرة المستمرة تُطرح التساؤلات حول ما إذا كانت الأسقف العالية التي بنيت على مدى السنوات الماضية، مجرّد عراضات صوتية فارغة.
الحلفاء والأعداء في حيرة استراتيجية تجعلهم يتعاملون مع لحظة الحقيقية على قاعدة كل يوم بيومه، بعيدا عن الخطط بعيدة الأمد وشعارات التحرير والصواريخ التي يمكن أن تدمّر حيفا في سبع دقائق
يدرك كثر أن طهران لعبت دورا استثنائيا في تطوير امكانيات حركات المقاومة في فلسطين، حماس والجهاد وغيرهما، كما حزب الله في لبنان. لكن أمام لحظة القتل المتسلسل وآلاف الشهداء من كافة الأعمار، يبحث الغريق عن قشة ويبدأ بالبحث في دفتر الوعود عن التزامات يعوّل عليها. يعاملها كديون مستحقة له، وإن لم تُسدد يشعر بالغبن واحيانا بالخذلان. وكما وضعها صديق غزاوي في دردشة مؤخرا، “هناك في غزة من يشعر بأن المحور فعل بغزة كما أهل الكوفة بالحسين في كربلاء.”
إطار التساؤل القاسي مبني على سنوات من التصريحات والتهديدات التي رفعت السقف مرارا، ومفهوم وحدة الساحات الذي جرى طرحه خلال السنوات القليلة الماضية بشكل حثيث، لكن من بيدهم الحل والربط في المحور يجيبون عليه بأن المفاجأة لم تترك مجالا لما هو أكثر من فتح الجبهات بالشكل التي هي عليه الآن. بداية برفع مستوى التهديد بصراع إقليمي من خلال التصعيد في العراق عبر استهداف كتائب حزب الله وغيرها من الفصائل للقواعد الأميركية في العراق وسورية، وفتح حزب الله مباشرة جبهة كانت مجمدة ولم تشهد سوى توترات محدودة على مدى السنوات السبع عشرة الماضية. ثم الورقة الواعدة والمؤثرة بحسب أجواء المحور كانت في اليمن، والذي نجح عمليا في فرض شبه حصار بحري من جهة البحر الأحمر على النقل البحري التجاري نحو اسرائيل.
في العراق يقول مصدر في كتائب حزب الله لـ”جاده إيران” “إن الهدف هو أكثر من تحرش ويتعداه ليكون فرضا لمعادلة جديدة من خلال إطلاق مسيرات وصواريخ باتجاه إسرائيل، وإن الضغط هذا هدفه دفع الأميركيين للتفكير جديا بأن الأمور تخرج عن السيطرة بشكل كامل”. المصدر الذي تحدثنا إليه في بغداد كشف عن اضطرار الأميركيين لتغيير طريقة تعاملهم مع التهديد واستنزافهم عملياتيا، مع الإشارة هنا إلى أن قرار المشاغلة، بحسب المصدر، كان متخذا قبل طوفان الأقصى لكن جُمّد لأسباب سياسية عراقية داخلية قبل أن يفعّل بعد عشرة أيام من الحرب.
ويكشف المصدر بأن لكتائب حزب الله وفصائل عراقية أخرى عناصر موجودة على الحدود مع إسرائيل، دون أن يوضح أكانت في لبنان أو سورية، وأنها جاهزة للتحرك متى ما يصبح تحركها مطلوبا من غرفة العمليات المركزية، مضيفا أن المقاومة العراقية ستتحرك خارج الصندوق في حال استهداف انصار الله الحوثيين في اليمن، وأن ضرباتها ستشمل القواعد الأميركية في الخليج “وليواجه العالم الأمر الواقع بين المضيقين (باب المندب وهرمز).”
المصدر في كتائب حزب الله عرض مجموعة من الخرائط اليومية التي تظهر عشرات الطائرات الأميركية التي تجوب سماء العراق يوميا، ومنها ما يزيد يوميا عن العشرين طائرة في سماء بغداد وحدها والتي تجوب أجواء العاصمة العراقية، بعضها مسلّح وبعضها الآخر بهدف الاستطلاع. يستطرد المصدر “الأميركيون أصبحوا أكثر استعدادا الآن لقبول الخروج من العراق ورئيس الحكومة خاطبهم بشكل مباشر حول بدء المفاوضات على أن يتزامن ذلك مع خروجهم، دون الانتظار حتى نهاية المفاوضات كما كان الحديث سابقا.”
في هذا الإطار يقول مستشار لرئيس الحكومة العراقية محمد شياع السوداني: إن لقاء رئيس الوزراء بنائبة وزير الخارجية الأميركية بالوكالة فيكتوريا نولاند لم يكن ودياً وأن الوزيرة سمعت من السوداني كلاما واضحا بخصوص الترتيبات لإنهاء الوجود الأميركي في العراق، وأن المسؤولة الأميركية أبلغت رئيس الحكومة بأن بلادها تسعى بشكل حثيث لوقف الحرب الإسرائيلية في غزة خلال فترة قريبة، مع أن ذلك يطرح سؤالا حول ما إذا كان الانسحاب الأميركي من العراق من مصلحة قوى الفصائل العراقية المتحالفة مع إيران، التي سيكون عليها بعد ذلك البحث عن ذريعة للنشاط داخل العراق، إذا سلمنا بأن دورها على مستوى المحور سيبقى قائما.
الأمر الآخر، وهو سؤال أكثر جدية وإلحاحا، حول وحدة هذه القوى العراقية، لا سيما في ظل الخلافات التي ظهرت مؤخرا بين الفصائل التي تشن هجمات ضد القواعد الأميركية وبين عصائب أهل الحق بقيادة قيس الخزعلي ومنظمة بدر بقيادة هادي العامري. الرجلان أثارا مع القيادة الإيرانية في لقاء قبل أسابيع جدوى استهداف الأميركيين، فكان الجواب في طهران بأن هذا قرار المقاومة العراقية وهم بادروا إلى ذلك دون طلب من الإيرانيين.
في الصورة الكبيرة، يقول مصدر في قوة القدس لـ”جاده إيران” إن ما يحدث في المنطقة الآن هو عبارة عن رقع شطرنج متشابكة بعدة لاعبين على كل جانب. يقول المصدر “هناك زلزال ضخم هز خريطة غرب آسيا، وكل طرف يريد رسم خريطة جديدة للمنطقة عبر عوامل مختلفة، توقيت المعركة مهم جدا وكل خطوة تؤخذ في هذا الإطار لها تأثير، لذا لا مجال للانفعال والخطأ.” في هذا الإطار يشرح مصدر آخر أن فكرة مشاركة إيران مباشرة في أي قتال مرفوضة جدا من قبل أعمدة المحور بشكل كامل، “حتى لو أرادت إيران القتال لمنعتها قوى المقاومة، إيران هي أم القرى بالنسبة للمحور، وهي التي تؤمن الدعم العسكري والمالي والسياسي والدبلوماسي، الحالة الوحيدة التي يمكن لإيران أن تتدخل هي عندما يصبح المحور بأسره في خطر، أي عندما تدخل أميركا في المعركة مباشرة.”
لا يخفى على المراقبين أن هناك نوعاً من التردد والإرباك في خطوات المحور منذ بداية طوفان الأقصى، ليست إسرائيل وحدها المضطربة والمربكة. هذا الإرباك وسياسة التجربة والخطأ والتصحيح مردها بطبيعة الحال إلى عدم الاستعداد لهكذا لحظة، والمسألة الثانية والتي تبدو أكثر وضوحا في حالة حزب الله في لبنان، أن الحزب لم يدخل في اختبار جدي مع إسرائيل منذ حرب 2006، بالتالي هو معني قبل كل شيء بتجربة وسائل قتاله وأساليب إسرائيل الجديدة والتي لم يختبرها الحزب في معاركه السابقة.
في الأشهر التي سبقت الحرب، كانت الجبهة الجنوبية في لبنان تشهد نوعا من التوتر المضبوط والذي تجلّى في قضية الخيمة التي نصبها حزب الله في منطقة مزارع شبعا. استنزفت القضية الكثير من الأخذ والرد والتهديدات والمساعي الدبلوماسية، بالتزامن كان لبنان يرسّم حدوده البحرية مع إسرائيل لضمان الاستفادة من حقول الغاز المفترضة. الإشارات المتضاربة كان تشي بأن جنوب لبنان كان على عتبة تحوّل كبير، إما بتجديد الهدنة غير الرسمية الممتدة منذ حرب 2006، أو بتصادم يعيد المنطقة مجددا لمساحة التوتر والاستنزاف كما قبل سنوات. أكثر المتفائلين والمتشائمين لم يتوقعوا انقلابا سريعا في المشهد كالذي فرضه طوفان الأقصى.
ثم وقع الطوفان.
يمكن القول إن الحزب أثبت خلال الأسابيع الماضية من المواجهة اليومية أنه يمتلك ما يردع إسرائيل عن القيام بعدوان على لبنان، وهذا يوضع في ميزانه، كما أنه يجيد استنزاف عدوه بشكل كبير جدا من خلال دفعه للابقاء على تعزيزات في الشمال بما يقارب ثلث جيشه ويجعله مضطرا لانفاق ملايين الدولارات على شكل صواريخ القبة الحديدية ومنظومة الباتريوت للتعامل مع أسلحة بدائية، كما في حالة الكاتيوشا التي تطلقها كتائب القسام في لبنان، أو صواريخ الدفاع الجوي غير المتقدمة. لعل هذا ما يستفز الإسرائليين بشكل كبير جدا، إذ أن الحزب حتى اللحظة لم يكشف أي من أسلحته المتطورة والحديثة، باستثناء الكورنيت بأنواعه العادية والمطورة، والذي بات يستخدم في استهداف المنشآت العسكرية على عمق بين ٥ كيلومترات وثمانية.
فعالية الكورنيت هنا ظهرت بوضوح في تدمير المباني التي يتحصن بها جنود الإحتلال. مع ذلك يبقى عدد القتلى الإٍسرائيليين المعلن عنهم على الجبهة اللبنانية قليل نسبيا رغم أن المشاهد التي بثها إعلام حزب الله تشير لوقوع عدد أكبر، على المقلب الأخر قارب أعداد شهداء حزب الله مئة وثلاثين منذ بداية الحرب. المعضلة هنا، أن الإسرائيلي يستفيد من فرصة الحرب لشن حرب استنزاف على الحزب والمحور بشكل أوسع من خلال استهداف البنية التحتية وبنك الأهداف المتوفر في منطقة جنوب نهر الليطاني في جنوبي لبنان، بينما يضغط سياسيا لاخراج قوات الحزب أو بعضها إلى مسافة يصفها بالأمنة عن الحدود. هذا الطرح شكّل حتى الآن الهدف الإسرائيلي المعلن، وحزب الله في رده على المطالبات التي تحملها وفود دولية يعلّق بألا كلام قبل وقف الحرب على غزة، وفي ذلك أكثر من إشارة إلى ما يمكن أن يكون الحزب بصدده، إن عسكريا أو سياسيا. لكن الإسرائيلي لم يكتف بذلك.
عملية اغتيال القائد في “قوة القدس” التابعة للحرس الثوري سيد رضي الموسوي جاءت في إطار الاستنزاف وفي ذات الوقت تصفية الحساب وهو استتبعها بغارات في البوكمال على مجموعات كانت تعمل معه ومؤخرا في حلب على مقرات تابعة لفريقه. هذا التوسيع الإسرائيلي لم يقابله حتى الآن أي رد بحجم الهجوم وهذا يؤشر، في مقابل توازن الردع في جنوبي لبنان، إلى ما يمكن وصفه بتخلخل الردع على مستوى مفاصل خط الدعم بين العراق وسورية. هذا التخلخل يعيده البعض إلى تعويل قيادة المحور على المساحات الرمادية في الردود منذ اغتيال قائد “قوة القدس” السابق قاسم سليماني في العراق. الجلي أن هذه المساحات بدأت تضيق بشكل كبير منذ يوم السابع من أكتوبر، وعليه فإنها إن تُركت لتضيق أكثر، من دون تثبيت معادلة ردع حقيقية فهي ستضيق الخناق على كل المحور الذي ترعاه طهران.
من ملف: عام 2023.. زلازل وطوفان