الطريق الى بكين… تنظيم الاشتباك السعودي الإيراني نحو المصالح
المسافة بين طهران والرياض قصيرة جغرافيا. لكنها في حسابات الخصومة سفرُ عقودٍ من الصراع الذي يتعدى الدرب من مياه الخليج إلى بكين ذهاباً وإياباً. لذا كان لا بد من بكين أو أي قوة بحجمها، لتثبيت نتائج لقاءات بغداد الخمسة، وجلسات مسقط.
ما حدث في بكين كان استكمالا لمحادثات بغداد بين عامي 2021 و 2022 بوساطة رئيس الحكومة العراقية السابق مصطفى الكاظمي. لكن رغم ذلك، فالدور الصيني هنا ليس مجرد القطاف في موسم الحصاد. الصين أخذت على عاتقها كسر ما تبقى من عوائق. كانت وسيطا لا ينتهي دوره مع إعلان الاتفاق، إذ كان لا بد من ضامن يصونه مع بروز عوائق مستقبلية. هنا دخلت بكين بوزنها كشريك اقتصادي وعسكري للجارتين اللدودتين. حققت أول انجازاتها الدبلوماسية في منطقة لطالما عُرفت بحجم التأثير الأميركي فيها. زاحمت الصين نفوذا أميركيا يتجاوز عمره ستين عاما.
فرضت واشنطن نفسها إلها أعلى في المنطقة، فيها الخصام وهي الخصم والحكم. ثبتت حضورها بحكم الأمر الواقع الأمني والعسكري، وحولت كل من يعارضها إلى عدو للنظام الإقليمي الذي فرضته على امتداد المنطقة. عوضت خسارة حلفها مع الشاه الذي أطاحته الثورة في إيران بحصار الأخيرة وتكبيلها بعقوبات وحروب، ظنا منها أنها بذلك ستخرج طهران من المعادلة، لكنها ايقظت بذلك الجني الذي ظهر لها في غير مكان بألف لبوس ولبوس.
لكن لحظة انعدام الوزن الإيرانية بعد اغتيال اللواء قاسم سليماني، ترافقت مع انتخابات أميركية أخرجت قاتله دونالد ترامب من البيت الأبيض. واشنطن كانت هذه المرة مثقلة بإرث الرئيس السابق داخليا وعالميا. إرثه في الخليج كان انقساما حادا بين دول مجلس التعاون. حصار قطر لم يكن مجرد حدث عابر في لحظة عصبية، بل هو نتاج لحظة أميركا الترامبية والتجييش الذي كاد ينجلي عن غزو ثلاث دول خليجية لدولة جارة. رغم القواعد الأميركية المنتشرة على ضفاف المسطح المائي العائم على ثلث ثروة العالم من الطاقة، تشكلت حالة فراغ فككت التحالف الذي أسست له زيارة ترامب الشهيرة الى الرياض أواخر آيار/ مايو 2017.
الأحادية الأميركية في المنطقة عبدت الطريق لحدث إقليمي آخر، اتفاقيات ابراهام التطبيعية بين البحرين والإمارات ابتداء وبين اسرائيل، ثم انضمت المغرب ووقعت السودان. العيون شخصت إلى السعودية التي فتحت مجالها الجوي أمام الطائرات الإسرائيلية ولكنها بقيت على مسافة من النسق الجديد. بدا للحظة وكأن الرياض تساير واشنطن في خطوات تسمح لها بتأجيل لحظة ثقيلة.
من غير المعروف بعد إذا ما كانت السعودية ستركب قطار التطبيع، لكن بعض العارفين بالسياسة يعتقدون من دون جزم أن الخطوة الصينية بالتوسط بين الرياض وطهران أراحت الأولى ودول خليجية أخرى من حتميات أحادية القطب الأميركي. صحيح أن خيار التطبيع قد لا يكون في حسابات الجميع مرّاً، لكنه للبعض يحمل معه أكلافاً كبيرة. لا يعني هذا إقفال الباب نهائيا، لكنه يعطي الفرصة للمناورة أكثر. الأداء السعودي منذ سنة ونصف تقريبا حمّال أوجه.
القول إن الاتفاق بين ايران والسعودية خسارة كبيرة لأميركا في ظل رئاسة بايدن فيه مبالغة لأسباب عديدة. ففي ظل الصراع مع روسيا أيُّ انشغال بصراع آخر سيشغلها عن معركتها في أوكرانيا. الاستدلال هنا في الدور العراقي في التسوية الإيرانية السعودية، فلو أرادت واشنطن لوضعت الفيتو على طاولة بغداد، وهو ما لم يحصل. أميركا المثقلة بمعاركها وبالصداع الإسرائيلي المتزايد تتحسب للمزيد من الفراغات التي يسعى خصومها لملئها، تماما كما فعلت الصين. هنا يبدأ القلق الأميركي جديًا. فالخسارة الأميركية الحقيقية هي في الدخول الصيني على مساحة كانت حتى فترة قصيرة ملعب واشنطن الذي لا ينافسها على التأثير فيه أحد، لا سيما في العلاقة مع الرياض. ولعل هذا الذي دفع مستشار الأمن القومي الأميركي جيك سوليفان للتصريح بأن واشنطن لم تستطع لعب دور الوسيط بين السعودية وإيران بسبب علاقاتها المتوترة مع الأخيرة، ليرحب بعدها بما وصفه بالتنافس مع الصين ونفي وجود صراع معها.
هنا لا ضير من نافذة صغيرة على مشهد جمع روسيا للخصمين السوري والتركي على طاولتها قبل شهرين، والحديث الآن عن اجتماع صار رباعيا بمشاركة إيران، وكذلك القمة التي تحدثت عنها وال ستريت جورنال ومن المفترض أن تجمع دول الخليج وإيران على طاولة واحدة. المشكلة ليست في التوافقات بل في الوسطاء الذين يقضمون من جغرافيا التأثير الأميركي الممتدة على خط زمني طويل.
ماذا عن السعودية وإيران؟ الحدث الكبير ليس مجرد مبادرة موظفين كبار في الإدارتين للتقريب بين دولتيهما، هذه دول بمحددات أمن قومي والقرارات الكبرى فيها لا اجتهاد فيها على النصوص الاستراتيجية، هناك قرار متخذ من أعلى الهرم والتطبيق وظيفة المكلفين بالملفات، غير ذلك كلام مرسل لا قيمة له. لكن لا داعي أيضا للأوهام ورفع الأسقف حدّ الخيال، فلا طهران ستصبح حليفة للرياض ولا العكس صحيح، المقطع السهل من الطريق الطويل أنجز والوقت حان للمقطع الأصعب. السياسة الإيرانية يصفها الخبراء بالسهلة الممتنعة، والسعودية بدورها استعادت الهدوء الذي لطالما ميّز سياستها الخارجية في العقود الماضية.
هناك خلافات كبيرة، رؤى مختلفة لمنطقة قابلة للإشتعال دائما، خطوط موازية لا تلتقي إلا بحول الله وقوته. هكذا، لا بد من إطار يسمح بتنظيم الخلاف تحت عناوين ربما يتفق عليها الساسة بعدما اتفق رجال الأمن على رسم حدود واضحة للاشتباك. هي مرحلة صناعة قواعد اشتباك أو قواعد تواصل تحت عين ضامن يمكن العودة اليه.
ربما يفيد هنا تنشيط الذاكرة بالعودة إلى مرحلة التوافق الذي لم يستمر طويلا بين الممكلة والجمهورية الاسلامية بداية القرن الحالي، والذي توج باتفاق أمني وبزيارة تاريخية لولي العهد السعودي إلى طهران. غياب الضامن حينذاك ضعضع قواعد الاشتباك، وشيئا فشيئا اضمحلت، ثم عادت للتشكل نهاية العقد الأول من الألفية الثالثة وبعدها اشتعلت المنطقة ومعها دخلت العلاقة نفقها الداكن.
ستفتح السفارات قريبا. هذا خبر تتم ترجمته في مد خطوط تواصل رسمية بعيدا عن التراشق الإعلامي والعسكري. لكن ذلك لا يمنع التراشق، ينظمه ربما، يجعله بكلفة معينة، وربما يمهد لتشييد مساحات تلاقٍ مستقبلية.
ربما تعوّل الصين على فرض نوع من الاعتماد بين البلدين في مساحة الاقتصاد، لتصبح الفائدة من تبريد الاشتباك أعلى من مردوده، تمهيدا لفضه تدريجيا. قد تكون الصين استلهمت من عقيدة نيكسون المعروفة ب العامودين الصنوين في السبعينات لتقديم مشروع تسويتها للمنطقة. عقيدة نيكسون المعلنة في العام 1969 كانت تقوم على تحويل النظامين الملكيين حينذاك إلى ضامنين للمصالح الأميركية في المنطقة.
لا مكان للسحرة في عالم مهجوس بالمصالح، التقييد بالمصالح هو الذي منع حتى الآن اشتباكا أميركا صينيا عالميا، وهو الذي ربما تريد الصين أن يكون اختباره الشرق أوسطي أولى تجاربها الكبرى كقطب عالمي احترف الصمت والاستماع على مدى السنوات الماضية. لكنه اختبار دونه مصاعب جمة ونجاحه قد يؤشر إلى تحول إقليمي يوازي لحظة السويس البريطانية.