غروسي في طهران: تفادي الأسوأ
لا يجرؤ أحد في العالم على إعلان نهاية الاتفاق النووي بشكل رسمي، المسألة مرتبطة بشكل كبير في إبقاء حد أدنى من الرقابة الدولية على برنامج إيران النووي الذي تقول الوكالة الدولية للطاقة الذرية إنه شهد تخصيبا بنسبة 83.7 بالمئة أي أقل بقليل من النسبة المطلوبة للتخصيب عسكريا.
ترفع طهران السقف بشكل عملي لا نظري، دافعة رئيس الوكالة الدولية للطاقة الذرية لزيارتها لعل يكون هناك ما يمكن القيام به لضبط الجموح الإيراني في ظل انشغال عالمي بحرب شبه عالمية بالواسطة بين روسيا والغرب.
لم تصل إيران إلى نسبة التخصيب هذه فجأة، إنما صنعت لذلك كعادتها مسارا طويلا بدأ مع خروج الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب من الاتفاق النووي في آيار/ مايو 2018 واستمر بعد انتخاب الرئيس إبراهيم رئيسي ووصل ذروته الحالية في أعقاب التعثر الذي أصاب المفاوضات النووية.
المسألة باختصار أن طهران ترسم مسافة واضحة بين برنامجها التي تصفه بالسلمي وبين أي خطوة متعجلة قد تسهل تصنيفه بشكل رسمي في دائرة العسكري. لذلك تداعيات ليس أقلها نقل الملف النووي الإيراني إلى مجلس الأمن الدولي وإعادة فرض العقوبات الدولية بشكل كامل وتعميق حالة العزلة الإيرانية القائمة منذ سنوات. يتجنب الغرب بدوره الوصول إلى تلك المرحلة. فإيران عندها قد تتجه نحو التخفف نهائيا من التزاماتها مع الوكالة الدولية وبالتالي الدخول أكثر في مساحة الغموض النووي. ماذا يعني هذا؟ من وجهة النظر الغربية، هكذا خطوة سينتج عنها صناعة إيران للقنبلة وبالتالي تغير موازين الردع بشكل كامل في الشرق الأوسط.
بدون اتفاق وبدون مفاوضات لا بد من طريقة للتأكد من التزام إيران بالحد الأدنى الذي يبقيها تحت السيطرة، لذلك فضلت الولايات المتحدة التروي قبل دعم توجيه الوكالة الدولية في جلسة مجلس حكامها الأسبوع المقبل توبيخا لطهران حول نشاطاتها النووية. الموقف الأميركي، بحسب المبعوث الخاص لشؤون إيران روبرت مالي، هدفه انتظار نتائج زيارة غروسي وما إذا كانت ستحمل جديدا. أما الإتحاد الأوروبي فعلى لسان مسؤول رفيع فيه أكد لـ”جاده إيران” أن “هناك بعض الأمل بنتائج زيارة غروسي لكن من غير المعلوم ما إذا كان سينتج عنها تعاون جديد مع طهران”.
بدوره قال مصدر دبلوماسي إيراني لـ”جاده إيران” إن “طهران تريد بالدرجة الأولى تعاملا غير مسيس من الوكالة الدولية”، مشددا على أن إيران كانت الأكثر التزاما بين كل دول العالم بتعهداتها مع الوكالة، بل “حرصنا على أن نبقي أي خطوة في إطار التزاماتنا حتى عندما اتخذنا قرارا بالرد على عدم الالتزام من قبل الأطراف الغربية.” المصدر أشار إلى أن إيران مستعدة دوما للعودة إلى طاولة المفاوضات تحت سقف اتفاق 2015 النووي “وبعيدا عن الانحياز لطرف على طرف، ومع احترام مصالح الشعب الإيراني.”
حرص الإيرانيون على تأمين كل مستلزمات زيارة المسؤول الدولي، وحرصوا كذلك على لقائه بكل المسؤولين المعنيين، من رئيس هيئة الطاقة الذرية الإيرانية محمد إسلامي إلى وزير الخارجية حسين أمير أمير عبداللهيان وصولا إلى رئيس الجمهورية إبراهيم رئيسي. “لكن هذا لن يكون كافيا” يقول مصدر دبلوماسي في دولة أوروبية فاعلة في المفاوضات النووية، مضيفا “إذا لم تترافق التصريحات مع خطوات جدية من قبل طهران للتراجع عن الخروقات المتكررة للالتزامات النووية لن يكون هناك أي تغيير.” المصدر الدبلوماسي الأوروبي بدا أقل تفاؤلا بالنسبة لاستئناف المفاوضات النووية معتبرا أنها قضية أخرى مختلفة عن الترتيبات مع الوكالة الدولية للطاقة الذرية.
الواقعية السياسية، بحكم الظروف الدولية والحرب الروسية في أوكرانيا والاتهامات المتكررة لإيران بتزويد موسكو بالطائرات المسيرة، إلى جانب التعقيدات السياسية في الولايات المتحدة بعد انتخابات الكونغرس الأخيرة، وتداعيات الاحتجاجات في إيران على العلاقات الأوروبية الإيرانية، والغربية الإيرانية بشكل عام، كلها تجعل من العودة إلى طاولة المفاوضات بشكل علني أمرا غاية في الصعوبة هذه الأيام. لا ينفي هذا إمكانية أن تكون هناك قنوات خلفية برعاية إقليمية تحاول إيجاد مساحة مشتركة بعيدا عن الأنظار، كما حصل في عُمان في العام 2012، لكن هذا يبقى مسارا مختلفا لا يمكن التحليل فيه قبل اتضاح حقيقة ما يجري فيه، في حال وجوده طبعا.
صعوبة العودة إلى الطاولة الرسمية والعلنية للتفاوض لا تمنع من التوصل إلى اتفاقيات صغيرة، كما في حالة الوكالة الدولية في زيارة مديرها إلى طهران، وكما في المفاوضات غير المباشرة بوساطة قطرية وبريطانية لتبادل السجناء والإفراج عن الأموال الإيرانية المحتجزة في كوريا الجنوبية. هذه التفاهمات الصغيرة من شأنها أن تبقي الاتفاق السابق على آلات دعم الحياة لمدة اضافية وتمنع بطبيعة الحال الأمور من الانزلاق إلى ما هو أسوأ. لكن هل العودة إلى الطاولة الرئيسية مستحيلة؟. هذا سؤال يُطرح كثيرا على الدبلوماسيين والمراقبين، لكنه يبقى بدون جواب شافٍ.
الحقيقة أن الإجابة على هذا السؤال تحتاج بدورها لشيء من الجرأة من الدول التي تجمعها الطاولة والتي اختلفت توقعاتها من الاتفاق عن السابق. اليوم هناك قضية مركزية للغرب المتمثل في المفاوضات من خلال أميركا وبريطانيا وفرنسا وألمانيا، هذه القضية هي الحرب في أوكرانيا، وبالتالي هناك أكثر من مسألة لا بد من مراعاتها في التعامل مع هذه القضية. أولا، تهشم الشراكة بين الغربيين وروسيا بحكم الحرب وهذا عامل معيق بشكل كبير للتوصل إلى اتفاق، ثانيا، وجود أدلة غربية على تورط إيران في تزويد روسيا بالأسلحة، وهو ما كنا قد تحدثنا عنه سابقا مع مسؤول أوروبي قال حينها إنّ طهران “وضعت نفسها داخل عاصفة كبيرة: الوضع الداخلي، نقل الأسلحة إلى روسيا والمأزق بشأن الاتفاق النووي”. المسؤول أضاف حينها أن الغرب لن يذهب إلى اتفاق مع إيران يسمح لها بالحصول على مئات ملايين الدولارات من عائدات النفط يوميا لاستخدامها في تصنيع طائرات مسيرة وتصديرها إلى روسيا.
الكلام المذكور بعينه كررته مصادر أميركية رفيعة في أكثر من مناسبة، وهو ما يعني أن الغرب شبه موحد خلف موقف واحد، لكنه إلى الآن يتحفظ على إعلانه بشكل مباشرة، ولعل التحليل يأخذنا هنا إلى خلاصة مفادها أن مواصلة المفاوضات النووية شرطه الرئيس وضع ملف المسيرات على الطاولة، بعبارة أخرى، الاتفاق النووي أصبح في مقابل المسيرات، وربما تكون المعادلة الإيرانية أيضا، المسيرات مقابل اسقاط شروط التفتيش في المواقع الثلاثة التي وجد فيها نشاط نووي مشبوه. لكن إلى حينها ستبقى مساحات التلاقي حول هذه الموضوع تفاهمات جانبية حول قضايا تفصيلية، تماما كما في حالة اطلاق سراح السجناء والإفراج عن الأموال الإيرانية، أو تفعيل التوافق التقني بين إيران والوكالة الدولية للطاقة الذرية.