الجادّة: طريقٌ في اتجاهين
قراءة طويلة23 أكتوبر 2022 05:54
للمشاركة:

“التقديس السياسي” في إيران.. إشكالية قديمة وتحدٍ جديد

ربما ليس هناك عامل أكثر فاعلية في استقرار الدول والبلدان - بعد العدل- من عامل "حرية النقد" وفتح نافذة الاختلاف والمعارضة السياسية. إن تقنين حرية النقد وترسيخها مجتمعيا لهو أكبر دليل على حيوية الدولة وقوتها، وقابليتها للاستمرار والبقاء بفضل مرونتها وبُعدها عن التصلّب المهدّد بالانكسار دوما.

والأنظمة السياسية الشمولية كثيرا ما تقع في أخطاء صبيانية تكون في الغالب هي العامل الرئيسي وراء سقوطها. وأكبر هذه الأخطاء هو احتكار الحاكم السياسي للصواب والخطأ في السياسات والقرارات داخليا وخارجيا، فيصبح صوت السلطة هو الوحيد المسموح له بالحياة، وتُقمع كل الأصوات الأخرى ويُحرم سماعها. وفي هذا السياق نلاحظ أن أحد هذه الأخطاء يتمثل في “التقديس السياسي” الذي يُحاط به الحاكم وجميع ما يصدر عنه من قرارات وسياسات. وهذا الخطأ ينشأ في العادة عندما تكون السلطة مهيمنة بشكل صارم على الأوضاع في البلاد، ولا يوجد لها معارضون في الساحة ما يوهم بطانة الحاكم بصحة كل القرارات التي يُقدم عليها كونها لا تجد من يعترض عليها، وتسلك طريقها سريعا إلى التنفيذ.

وتعتبر إيران في عهد “الجمهورية الإسلامية” نموذجا صادقا على هذه الإشكالية في الأنظمة السياسية إذ إنه وطوال أكثر من أربعين سنة لم يرتكب الحاكم السياسي خطأ واحدا في زعم أصحاب السلطة وصنّاع القرار في إيران. والمقصود بالحاكم السياسي هنا هو القائد الأعلى السابق آية الله روح الله الخميني والقائد الأعلى الحالي آية الله علي خامنئي الذي يحكم البلاد منذ أكثر من 30 سنة. لقد وقع النظام الإيراني في خطأ تقديس الحاكم السياسي وقراراته عندما نزّه بشكل غير معلن هاتين الشخصيتين عن ارتكاب الأخطاء السياسية. لم يجرؤ أحد منذ تأسيس النظام عام 1979 على مسائلة القائدين السابق والحالي على جميع السياسات والقرارات التي أقدما عليها والتي شملت في بعض الفترات حروبا وصراعات، وفي فترات أخرى تضمنت اتفاقيات ومعاهدات هامة. كل قرار يتأخذه القائد في إيران صائب وصحيح ما لم يعد عنه، فإن عاد انقلب صواب الأمس إلى خطأ وجريرة، وفي ليلة وضحاها تصبح فضيلة الماضي جناية الحاضر والمستقبل.

مثال على ذلك الحرب العراقية الإيرانية، فبحسب تصريحات المسؤولين الإيرانيين، في السنوات الأخيرة، معظم القيادات العسكرية والسياسية الإيرانية في حقبة الحرب مع العراق كانت مقتنعة بعدم جدوى الاستمرار فيها، لكن قرار الخميني، القاضي بالاستمرار، جعل البلاد تجيّش كل طاقاتها وتخوض حربا قاسية دامت ثمان سنوات، وآنذاك لم يجرؤ أحد على مصارحة القائد الأعلى بالحقيقة وبيان خطأ رأيه في ذلك الموضوع، وبدل ذلك استمر الجميع في التأكيد على ضرورة الاستمرار في الحرب “المقدسة”، لكن وبعد عدول الخميني عن قراره السابق وقبوله وقف إطلاق النار صفّق له الجميع وأشادوا بهذه الحكمة الربانية والدهاء السياسي إذ إنه قبِل أن “يتجرع كأس السم” لينعم شعبه بالسلام والاستقرار!

بكل هذه الصراحة يعدل الحاكم عن رأيه دون أن يجد من يسائله أو يحاسبه، فلا مجال للمحاسبة والمعارضة، والمنتقدون لهذا التناقض من جانب الحاكم السياسي حتى لو تم ذلك دون تقرير أو تصريح مباشر يكون مصيرهم السجن أو المضايقات المستمرة التي تجبر صاحبها في كثير من الأحيان على الصمت والفوز بالسلامة.

ومثال آخر على هذا “التقديس السياسي” يمكن أن نلاحظه في قضية الاتفاق النووي إذ وافق النظام الإيراني عام 2015 على إبرام الاتفاق مع الولايات المتحدة الأميركية، وكان بطل هذا الاتفاق هو شخص القائد الأعلى علي خامنئي الذي وجّه قبل الاتفاق بإظهار” المرونة البطولية” والتفاوض على الاتفاق النووي. كثيرون كانوا ممتنين للقائد على الفطنة السياسية، وانهالت عليه التبريكات من كل حدب وصوب بعد تحقيق هذا “الإنجاز التاريخي” الذي أنهى سنوات طويلة من الحظر الاقتصادي “الظالم” على البلاد. لكن هذا الاتفاق نفسه أصبح “خيانة” عظمى من الحكومة السابقة بعد أن انتقده القائد وبدأ بتفنيده وانتقاد الحكومة التي تبنته بالتوافق مع القائد ومؤسسات الحكم في البلاد.

لكن هذا التقديس المستمر منذ أربعة عقود أصبح الآن يشكل عبئا ثقيلا على النظام السياسي في إيران لاسيما خلال السنوات الخمس الأخيرة والتي بدأت فيها البلاد للمرة الأولى تشهد مظاهرات”عنيدة” ترفض جلَّ العملية السياسية في البلاد ولا تجامل أحدا من المشاركين في المشهد السياسي الإيراني، وباتت بشكل غير مسبوق تصوّب سهام نقدها إلى القائد الأعلى نفسه بعد أن كان لا يجرؤ أحد على مخاطبته باسمه مجردا من ألقاب التعظيم والتفخيم والجلالة.

المتابع للاحتجاجات الجارية في إيران منذ أكثر من شهر يجد أن أكثر هتاف ردده المتظاهرون هو “الموت للديكتاتور” في إشارة إلى القائد الأعلى على خامنئي الذي بات يراه الإيرانيون – أو المتظاهرون منهم على الأقل – العامل الرئيسي في المشاكل التي تعاني منها البلاد سياسيا واقتصاديا واجتماعيا، بعد انفراده بالقرار و”المجد” في الدولة. الاحتجاجات في إيران اليوم تحمّل القائد الأعلى خامنئي بشكل أساسي مسؤولية كل ما يجري في البلاد من أزمات ومشاكل، والملفت أن هؤلاء المتظاهرين قليلا ما يهاجمون مسؤولين آخرين كرئيس الجمهورية أو رئيس البرلمان أو غيرهما من المسؤولين الكبار في البلاد. وأصبحت هناك قناعة بأن القائد الأعلى خامنئي هو صاحب الكلمة الأخيرة في البلاد، وأن أي نقد لمسؤول آخر هو هروب من أصل المشكلة وجوهرها.

وهذا “الصلف الشعبي” إن صح التعبير في تجريد القائد الأعلى من قدسيته وعصمته السياسية جعل النظام الإيراني في وضع لا يُحسد عليه إذ إنه يصعب على قيادات النظام اليوم الاعتراف بهذه المعضلة المتمثلة في رفض المتظاهرين “تقديس” القائد الأعلى آية الله علي خامنئي والتعامل معه كسائر السياسيين الآخرين، ولو كان المستهدف شخصا آخر غير القائد الأعلى لسهل على النظام مناقشة الموضوع وحتى ربما مسائلة المستهدَف ومحاسبته.

 سنوات من التقديس السياسي وإضفاء العصمة على قراراته أصبحت معضلة النظام في إيران الذي يحاول تجاهل الإشكالية بدل البحث لها عن حلول تنطلق من الجذور وبدايات التشكيل. الاتجاه المعتمد الآن من قبل النظام يتمثل في التركيز على إنكار هذه الإشكالية بالجملة وتجاهل وجودها أصلا، ويدأب في المقابل في إسكات الاحتجاجات التي إن خمدت اليوم فإن لها كرة لن تطول، الأمر الذي يفرض على قيادات النظام – أو ينبغي أن يفرض- مراجعة الحسابات وتحديدا فيما يتعلق بدور القائد الأعلى في السياسة الإيرانية دون أغلال التقديس والعصمة السياسية ليصبح من الممكن التغلب على هذا التحدي الكبير أمام نظام الجمهورية الإسلامية.

إن المعلومات والآراء المذكورة في هذه المقالة لا تعبّر بالضرورة عن رأي جاده إيران وإنما تعبّر عن رأي كاتبها

جاده ايران تلغرام
للمشاركة: