فيينا مجددا… هل اقترب الحسم؟
وضعت الخيارات المحدودة إيران وأميركا أمام لحظة حقيقة، العودة إلى طاولة المفاوضات والقبول بمناقشة أثمان التنازلات. لم يتردد جوزيب بوريل كثيرا عندما لاحت فرصة جمع الطرفين وإن في حجرتين منفصلتين. كالعادة في مثل هذه الأوضاع يتولى نائبه انريكي مورا التفاصيل ويعمل لتحفيز الحركة في اتجاه الحوار وما بعد الحوار. لعله يستفيد من شهادة ماجستير في الفيزياء النظرية التي يحملها ليقرب وجهات النظر من خلال طرح قانون النسبية بما يتوافق مع مبدأ رابح- رابح في المفاوضات النووية.
في قصركوبرغ الكبير يمارس الدبلوماسي الأسباني مفاوضات تشبه مباريات الشطرنج على أكثر من رقعة، يهرع من غرفة إلى غرفة بهدف نقل وجهات النظر بين كبير المفاوضين الإيرانيين علي باقري كني، ونظيره الأميركي روبرت مالي. المفاوضات الآن، بحسب أكثر من مصدر في فيينا، تسير إلى الأمام ولا سقف زمني لها وهي “ستستمر طالما أنها تشهد تقدما، وهي تشهد ذلك” يقول مصدر دبلوماسي لـ “جاده إيران”.
في العلن ، المطالب عامة. تريد إيران رفع العقوبات وتطلب ضمانات تفيد بأنها ستستفيد اقتصاديًا. لكن القضية الرئيسية المطروحة على الطاولة هي ضمانات الوكالة الدولية للطاقة الذرية، وطهران تطالب الوكالة الدولية للطاقة الذرية بإنهاء تحقيقها في الأنشطة النووية الإيرانية المشبوهة في ثلاثة مواقع. هنا بيت القصيد الآن، وأي حل في فيينا لا يمكن إلا وأن يخرج من هذه المساحة، ولذا فإن الأطراف تفعّل مجددا أوراق قوتها لتضعها على الطاولة بهدف الاستفادة منها في عملية التفاوض التي كانت قبل أسبوع فقط مستنزفة وغير مجدية. الرسائل الإيرانية عبر مورا ومن خلال وسائل الإعلام ومؤخرا عن طريق الرئيس الفرنسي ايماونيل ماكرون الذي تلقى اتصالا من الرئيس الإيراني إبراهيم رئيسي، هذه الرسائل مفادها أن إيران لا ترى اتفاقا في الأفق “وعندما يتم حل وإغلاق ما يسمى بقضايا الإجراءات الوقائية والموقع المشبوهة، يمكن تحقيق الاتفاق النهائي”.
في هذا الإطار، قال مصدر إيراني لـ “جاده إيران” في المرة الأخيرة في فيينا، كان هناك اتفاق مفاده أن ترسل الوكالة الدولية للطاقة الذرية أسئلة إلى إيران، وتقوم إيران بدورها بتقديم إجابات، بعدها يصدر تقرير عن الوكالة الدولية للطاقة الذرية، ومن ثم تقوم فرنسا وألمانيا والمملكة المتحدة، إلى جانب الولايات المتحدة بارسال بيان للوكالة الدولية للطاقة الذرية وبالتالي تحل المشكلة”. المصدر اتهم الولايات المتحدة والمجموعة الأوروبية بفعل العكس. “لقد أصدروا بيانا سلبيا بشأن إيران ويجب حل ذلك في المحادثات الحالية.” في المقابل، أكد مصدر أوروبي لـ “جاده إيران” أن التركيز حاليًا على حل هذه المشكلة بالتحديد. لكنه قلل من شأن تصريحات المصدر الإيراني حول الاتفاق السابق في فيينا باعتبارها للاستهلاك المحلي.
في 15 كانون الأول/ ديسمبر 2021، توصلت إيران والوكالة الدولية للطاقة الذرية إلى اتفاق للعمل بشأن قضايا الضمانات المعلقة المتبقية في ثلاثة مواقع تشتبه فيها الوكالة الدولية للطاقة الذرية في وجود أنشطة مثيرة للقلق. وبموجب الاتفاق، وعدت منظمة الطاقة الذرية الإيرانية بتقديم تفسيرات مكتوبة ووثائق داعمة بشأن المواقع الثلاثة.
امتدت تلك المرحلة حتى أوائل مارس آذار 2022، وتزامنت مع جولة تفاوض في فيينا وزيارة رئيس الوكالة الدولية للطاقة الذرية رفاييل غروسي إلى طهران. حينها كانت قضية المواقع المشبوهة وإزالة الحرس الثوري عن لوائح الإرهاب تحت البحث بشكل هادئ وبعيد عن الإعلام، إلى أن تسربت تفاصيل التفاوض عبر موقع أكسيوس الأميركي من خلال الصحفي الإسرائيلي باراك رافيد والتي تقدمها حينها طلب إيران إزالة الحرس الثوري عن قائمة المنظمات الإرهابية الأميركية. حينها كانت بعض المصادر الإيرانية تقول إن الاتفاق لا يمكن أن يتم بدون رفع الحرس.
في شهر أيار/ مايو بدأت قضية الحرس تتراجع ولاحقا جرى التأكيد عبر وزير الخارجية الإيراني حسين أمير عبد اللهيان في منتدى دافوس أن القضية ليست شرطا لاغيا للاتفاق.
في ذلك الوقت، انتقدت صحف إيرانية ومنصات وشخصيات سياسية التوجه الجديد ووصل الأمر للبعض لاعتباره نوعا من الخيانة. لكن إيران عادت لاحقا وأكدت موقفها القديم. مستشار الوفد التفاوضي محمد مرندي والموجود في فيينا حاليا أكد لـ “جاده إيران” أن مسألة الحرس الثوري لم تكن ولن تكون شرطا مسبقا، مع ذلك فهي على الطاولة، تماما كما ذكرت وكالة الأنباء الإيرانية “أرنا”. وأضاف مرندي أن الادعاءات بأن “إيران تطالب بتنازلات غير متعلقة بخطة العمل الشاملة المشتركة هي من صنع الأساطير الغربية”.
خلال الأسابيع الماضية بدت إيران كمن يريد رفع السقف بشكل غير مسبوق خلال فترة التفاوض النووي. كررت على لسان أكثر من مسؤول فيها بشكل مباشر أو غير مباشر بأنها باتت جاهزة تقنيا لصناعة القنبلة، لكنها تفضل عدم القيام بذلك لأن الأمر يتعارض مع مبادئها ويناقض أولويات أمنها القومي. المقصود من الرسالة لم يكن التهويل، بقدر ما كان التأكيد بأن طهران أصبحت دولة ذات حالة نووية، تعيش تحت سحابة غموض قد تتسع في حال عدم التوصل إلى تسوية تنهي الوضع القائم.
قبل سنوات تقدم شمعون بيريز، رئيس إسرائيل السابق ورئيس وزرائها والعقل المسؤول عن برنامجها النووي، ليشرح في مقابلة تليفزيونية عن برنامج إسرائيل النووي وموقفه في البدايات من صناعة رؤوس حربية، يقول بريز “حتى ولو لم نصنع قنبلة فإن صورة الردع جرى تثبيتها.” السؤال الكبير هنا، هل كانت تسعى إيران لفرض معادلة جديدة على المنطقة والعالم من زاوية رفع السقف النووي. نتائج الحوار في فيينا ستقول لاحقا ما إذا كانت هذه المحاولة ناجعة.