ما هو مستقبل البرنامج النووي الإيراني مع رئيسين جديدين في واشنطن وطهران؟
المقدمة
ظل البرنامج النووي الإيراني لعقود عديدة محور جدل وتوتر على الساحة الدولية. ويرجع السبب في ذلك إلى تطور هذا البرنامج من مبادرة نووية سلمية إلى ملف شائك يثير المخاوف العالمية، لا سيما بعد انسحاب الولايات المتحدة من الاتفاق النووي في عام 2018. هذه الخطوة الأميركية أحدثت إعادة تشكيل في الديناميكيات الدولية وأدت إلى تصاعد التوترات مع إيران، التي قامت بدورها بالرد على هذا الانسحاب بمجموعة من الإجراءات في البرنامج النووي إلى أن أعلنت بعد ذلك بسنوت عن وصولها إلى مرحلة “الحافة النووية”. هذا التقرير يستعرض مسيرة البرنامج النووي الإيراني، تداعيات انسحاب الولايات المتحدة، والمفاوضات الجارية ومستقبل الاتفاق النووي، مع التركيز على تأثيرات الانتخابات الإيرانية والأميركية المقبلة.
تطور البرنامج النووي الإيراني عبر العقود
- البدايات
في خمسينيات القرن العشرين، بدأ البرنامج النووي الإيراني كجزء من برنامج “الذرة من أجل السلام” الذي أطلقته الولايات المتحدة. ومع قيام الثورة الإسلامية في عام 1979، توقفت معظم الشراكات النووية مع الغرب، مما دفع إيران إلى البحث عن حلفاء جدد مثل روسيا والصين لاستعادة نشاط برنامجها النووي خلال الثمانينيات والتسعينيات. بالرغم من تبريرها بأن البرنامج لأغراض سلمية، تزايدت الشكوك الدولية حول نوايا إيران.
- مرحلة التصعيد والمفاوضات
مع بداية الألفية الثالثة، تسارع تطوير البرنامج النووي الإيراني، مما أثار قلقًا عالميًا حول احتمال سعي إيران لامتلاك أسلحة نووية. بين عامي 2002 و2013، اكتُشفت مرافق سرية للتخصيب في نطنز وأراك، مما أدى إلى فرض عقوبات دولية مشددة وتزايدت التوترات مع القوى العالمية. خلال فترة رئاسة محمود أحمدي نجاد (2005-2013)، تبنت إيران موقفًا أكثر صرامة تجاه الغرب، مما زاد من تعقيد الأزمة النووية.
- الاتفاق النووي (2015)
بعد سنوات من المفاوضات المكثفة، تم التوصل إلى الاتفاق النووي المعروف بخطة العمل الشاملة المشتركة (JCPOA) في عام 2015 بين إيران ومجموعة 5+1 (الولايات المتحدة، المملكة المتحدة، فرنسا، ألمانيا، روسيا، الصين). كان الهدف من الاتفاق هو تقليص الأنشطة النووية الإيرانية مقابل رفع العقوبات الدولية، مع فرض عمليات تفتيش صارمة لضمان الطابع السلمي للبرنامج النووي.
- تأثير الاتفاق النووي
المكاسب الإيرانية
- رفع العقوبات: مكنت الاتفاقية إيران من رفع العديد من العقوبات الدولية، مما سمح لها بإعادة الانخراط في الاقتصاد العالمي وتحسين الأوضاع الاقتصادية الداخلية.
- الاعتراف الدولي: مثل الاتفاق انجازًا دبلوماسيًا لإيران من خلال الاعتراف ببرنامجها النووي السلمي.
- التقدم التكنولوجي: استمر تطوير القدرات النووية الإيرانية ضمن الاستخدامات السلمية، بما في ذلك البحث والتطوير في التكنولوجيا النووية.
المكاسب الغربية
- تقييد البرنامج النووي الإيراني: ساهم الاتفاق في تقليص الأنشطة النووية الإيرانية بشكل كبير، مما حد من القدرات التي تسمح لها بتطوير أسلحة نووية.
- تعزيز الاستقرار الإقليمي: كان من المتوقع أن يؤدي الاتفاق إلى تحقيق استقرار أكبر في الشرق الأوسط من خلال تقليل مخاطر انتشار الأسلحة النووية.
- محاولة لاحتواء إيران: الاتفاق النووي مع إيران كان يهدف أساسًا إلى احتواء إيران وإدماجها في النظام الإقليمي، مما يسمح للولايات المتحدة بالتفرغ لمواجهة التحديات الاستراتيجية الأخرى، مثل صعود الصين.
- تداعيات انسحاب الولايات المتحدة
عودة التوترات والضغوط الاقتصادية
في مايو 2018، أعلن الرئيس الأمريكي دونالد ترامب انسحاب الولايات المتحدة من الاتفاق النووي وإعادة فرض العقوبات على إيران. تسبب هذا الانسحاب في:
- تصاعد التوترات: بعد الانسحاب، بدأت إيران في زيادة أنشطتها النووية تدريجيًا، ردًا على إعادة فرض العقوبات.
- إضعاف موقف الاتحاد الأوروبي: أظهر الاتحاد الأوروبي عدم قدرته على حماية الاتفاق أو تقديم بدائل اقتصادية فعالة لإيران، مما أدى إلى تقويض الثقة في قدرته على الوساطة أو لعب دور مؤثر على الساحة الدولية بأجندة مختلفة عن أجندة واشنطن.
- زيادة العقوبات والضغوط: تعرضت إيران لمزيد من العقوبات الاقتصادية والسياسية، إضافة إلى الهجمات السيبرانية وعمليات التخريب المنسوبة إلى إسرائيل، مثل اغتيال العلماء النوويين والهجمات على المنشآت النووية. حيث اعتبرت إيران أن هذه الهجمات جزءً من حملة شاملة تهدف إلى إضعاف قدراتها النووية والتكنولجية
- توتر مع الوكالة الدولية للطاقة الذرية: بعد انسحاب الولايات المتحدة، توترت علاقات إيران مع الوكالة الدولية للطاقة الذرية. حيث انتقدت طهران التقارير التي أصدرتها الوكالة، معتبرة أنها مسيسة وتخضع لضغوط دولية تهدف إلى تبرير استمرار العقوبات الدولية المفروضة عليها.
إعلان إيران كدولة حافة نووية
في سياق ردها على الضغوط المتزايدة، أعلنت إيران أنها أصبحت دولة حافة نووية، مما يعني أنها تمتلك القدرة على إنتاج سلاح نووي إذا اختارت ذلك، على الرغم من تأكيدها المستمر على سلمية برنامجها النووي. أثار هذا الإعلان مخاوف دولية وزاد من تعقيد العلاقات بين إيران والمجتمع الدولي.
الانتخابات الإيرانية ومستقبل الملف النووي
- تأثير الانتخابات الإيرانية على البرنامج النووي
تُعتبر الانتخابات الإيرانية المقبلة محورية في تحديد مسار السياسة النووية للبلاد. حيث يتنافس التياران الرئيسيان، الإصلاحي والمحافظ، على كيفية إدارة الملف النووي والتعامل مع الغرب، مما يعكس الانقسامات الداخلية العميقة في إيران:
- التيار المحافظ:
- التشدد في السياسة النووية: قد يسعى المحافظون إلى تعزيز قدرات إيران النووية دون تقديم تنازلات كبيرة، وذلك بالتوازي مع تأكيدهم على عدم الثقة في النوايا الغربية.
- الاستمرار في التخصيب: من المحتمل أن يدفع المحافظون نحو زيادة مستويات التخصيب والإبقاء على موقف إيران كدولة حافة نووية.
- التيار الإصلاحي:
- التفاوض وإعادة الانخراط: يفضل الإصلاحيون العودة إلى طاولة المفاوضات مع الغرب بهدف رفع العقوبات وتحسين الوضع الاقتصادي.
- تعزيز التعاون الدولي: قد يسعى الإصلاحيون إلى تحسين العلاقات مع المجتمع الدولي وزيادة الشفافية مع الوكالة الدولية للطاقة الذرية.
- التيار المعتدل:
- الحلول المتوازنة: يميل المعتدلون إلى البحث عن توازن بين تطوير القدرات النووية والتفاوض مع الغرب لضمان تحقيق مكاسب اقتصادية وإقليمية.
- التركيز على الاقتصاد: المعتدلون قد يعطون الأولوية للإصلاحات الاقتصادية الداخلية بدلاً من التركيز المفرط على البرنامج النووي.
- انتقال الملف النووي الى النظام
في تطور مهم، تناقلت وسائل إعلام إيرانية أخبارًا عن انتقال الملف النووي الإيراني من وزارة الخارجية إلى إشراف علي شمخاني، الذي يعد حاليًا مسؤول قسم الخارجية والأمن والدفاع في مصلحة تشخيص النظام، فضلًا عن منصبه كمستشار سياسي لأعلى للقائد الإيراني علي خامنئي. هذا التطور الذي تم تداوله بعد وفاة الرئيس الإيراني السابق إبراهيم رئيسي وعلى عتبة الانتخابات الرئاسية لاختيار بديل له قد تعكس رغبة من القيادة الإيرانية في فصل إدارة الملف النووي عن التأثيرات المحتملة للخلافات بين التيارات السياسية المختلفة داخل البلاد.
كذلك، قد يهدف هذا إلى إبقاء باب الحوار والمفاوضات مفتوحًا مع الولايات المتحدة ودول الجوار، مما يؤكد حرص إيران على تبني سياسة نووية مستقرة ومتواصلة. كما أن تولي شخصية بهذا المستوى في مجمع تشخيص مصلحة النظام للملف النووي والتفاوض حوله يعني أن العمل فيه لن يكون انعكاس لموقف جهة سياسية معينة بقدر ما سيعكس إرادة النظام ككل، وهذا بدوره قد يؤشر لوجود مساعي إيرانية لبث رسالة طمأنة حول نهجها الثابت في الحوار والحفاظ على الفرص الدبلوماسية بعيدًا عن التحولات الداخلية والخارجية.
- تأثير الانتخابات الأميركية
الاستعداد لنتائج الانتخابات الأميركية 2024
تراقب إيران عن كثب التطورات السياسية في الولايات المتحدة مع اقتراب الانتخابات الرئاسية لعام 2024. إذ أنه من الممكن أن يقود فوز دونالد ترامب إلى إعادة سياسة “الضغط الأقصى” التي انتهجها خلال فترته الأولى، مما يفتح المجال أمام تأجيج التوترات مع إيران:
- إدارة بايدن:
- استمرار المفاوضات: تسعى إدارة بايدن إلى إعادة إيران إلى الاتفاق النووي وتخفيف العقوبات مقابل التزام إيران بقيود صارمة على برنامجها النووي.
- الدبلوماسية المتعددة الأطراف: تفضل إدارة بايدن الحلول الدبلوماسية والتعاون مع الحلفاء الأوروبيين للضغط على إيران للتفاوض على شروط جديدة.
- عودة ترامب:
- سياسة الضغط القصوى: قد تعود سياسة “الضغط الأقصى” التي تبناها ترامب خلال فترة رئاسته الأولى، مما يعني فرض عقوبات أشد ومحاولة تقويض البرنامج النووي الإيراني من خلال الضغوط الاقتصادية والعسكرية.
- التصعيد العسكري: مع توجهات ترامب المتشددة، قد تزيد احتمالات التصعيد العسكري في المنطقة وزيادة الأعمال التخريبية ضد المنشآت النووية الإيرانية.
- الخيارات المطروحة أمام إيران
في مواجهة الضغوط الدولية والوضع الداخلي المعقد، أمام إيران عدة خيارات استراتيجية قد تحدد مسار برنامجها النووي:
- المضي قدمًا في سياسة الحافة النووية:
- تعزيز قدرات التخصيب: يمكن أن تستمر إيران في تطوير قدراتها على تخصيب اليورانيوم إلى مستويات أعلى، مما يقربها من قدرة إنتاج الأسلحة النووية.
- مواصلة البحث والتطوير: الاستثمار في البحث والتطوير في التقنيات النووية يمكن أن يعزز من قدرتها التقنية مما قد يمنحها موقفًا تفاوضيًا أقوى.
- العودة إلى طاولة المفاوضات:
- السعي لرفع العقوبات: من خلال المفاوضات الجديدة، قد تحاول إيران الحصول على تخفيف للعقوبات، وهو يعزز احتمال تحسين وضعها الاقتصادي الداخلي.
- ضمانات دولية: يمكن أن تطلب إيران ضمانات من القوى الكبرى، وخاصة الولايات المتحدة، لضمان عدم تكرار انسحابها الأحادي من الاتفاق النووي، وتجنب التوترات المستقبلية.
- التوجه نحو سياسة اقتصادية داخلية:
- تقليل الاعتماد على النفط: يمكن أن تسعى إيران إلى تقليل اعتمادها على عائدات النفط وتعزيز الصناعات المحلية والاقتصاد غير النفطي كجزء من استراتيجيتها لمواجهة العقوبات.
- التعاون مع دول محايدة: تعزيز العلاقات الاقتصادية مع دول مثل الصين وروسيا، التي قد تكون أقل تأثرًا بالضغوط الأميركية، يمكن أن يوفر لطهران متنفسًا اقتصاديًا.
- الانتقال إلى القوة الإقليمية:
- توسيع النفوذ الإقليمي: يمكن أن تسعى إيران إلى تعزيز نفوذها في الشرق الأوسط كوسيلة لمواجهة الضغوط الدولية، من خلال دعم حلفائها الإقليميين ومواصلة دورها في الصراعات الإقليمية.
- تطوير القدرات العسكرية التقليدية: تعزيز قدراتها العسكرية التقليدية لمواجهة أي تهديدات خارجية، والتأكيد على دورها كقوة إقليمية قادرة على حماية مصالحها.
المفاوضات النووية ومستقبل الاتفاق
- المفاوضات
منذ انسحاب الولايات المتحدة من الاتفاق النووي، انخرطت إيران في مفاوضات مع القوى المتبقية في الاتفاق (بريطانيا، فرنسا، ألمانيا، الصين، روسيا) وبعد استلام جو بايدن زمام الرئاسة في الولايات المتحدة بدأت مفاوضات غير مباشرة مع واشنطن. وعلى الرغم من تعثر وانقطاع المفاوضات بين الطرفين لفترات كثيرة خلال الفترة الماضية إلا أن طهران دأبت التأكيد على أنها تتبادل الرسائل غير المباشرة مع الأميركيين. تهدف هذه المفاوضات إلى إعادة الحياة للاتفاق النووي أو التوصل إلى اتفاق جديد يحافظ على القيود المفروضة على برنامج إيران النووي ويرفع العقوبات الاقتصادية.
- السيناريوهات المحتملة
- إحياء الاتفاق النووي:
- قد يتمكن الأطراف من إعادة إحياء الاتفاق النووي الحالي مع تعديلات طفيفة تلبي احتياجات الجانبين. هذا السيناريو يتطلب التنازلات من جميع الأطراف وضمانات لتجنب الانسحاب الأحادي في المستقبل.
- اتفاق نووي جديد:
- يمكن أن تؤدي المفاوضات إلى اتفاق جديد يأخذ في الاعتبار التطورات الأخيرة ويضع إطارًا أكثر شمولية لضمان الطابع السلمي للبرنامج النووي الإيراني، مع تقديم حوافز اقتصادية جديدة لإيران.
- استمرار التصعيد:
- في حال فشل المفاوضات، قد تستمر إيران في زيادة تخصيب اليورانيوم وتطوير قدراتها النووية، مما قد يدفع الغرب إلى فرض مزيد من العقوبات والضغوط. هذا السيناريو يمكن أن يؤدي إلى تصاعد التوترات وربما مواجهات عسكرية.
الخاتمة
- يمثل البرنامج النووي الإيراني واحدة من أكبر التحديات على الساحة الدولية، مع تداخل عوامل سياسية، اقتصادية، وأمنية معقدة. من الواضح أن تطور هذا البرنامج وتحولاته على مدار العقود الماضية كان دائمًا محورًا للتوترات الدولية. انسحاب الولايات المتحدة من الاتفاق النووي في عام 2018 أعاد الملف إلى دائرة الصراع وزاد من تعقيداته.
- في المستقبل، ستظل الخيارات الاستراتيجية المتاحة لإيران بين التصعيد والمفاوضات وتطوير العلاقات مع القوى الأخرى غير الغربية حاسمة في تحديد مسار برنامجها النووي. ومع اقتراب الانتخابات الإيرانية والأميركية، فإن مسار السياسة النووية الإيرانية وإن أصبح رسم معالمها مرتبطًا بالنظام إلا انها ستتأثر كثيرًا بالتوجهات السياسية الداخلية والضغوط الخارجية، لأن هذين العاملين يشكلان أساسا محوريا في نظرة النظام للسياسة الكلية التي يخطو تحت سقفها.
- في النهاية، يمكن القول إن استقرار الشرق الأوسط يعتمد بشكل كبير على كيفية معالجة المجتمع الدولي للملف النووي الإيراني، وإيجاد التوازن بين الأمن العالمي وحقوق الدول في تطوير قدراتها التكنولوجية. ومع اقتراب الانتخابات في إيران والولايات المتحدة، يمكن أن يكون لهذين الحدثين تأثيرات بعيدة المدى على مستقبل البرنامج النووي الإيراني والعلاقات الدولية بشكل عام.
لمتابعة تغطية “جاده إيران” للانتخابات الرئاسية الإيرانية تحت عنوان “إيران.. الصندوق بعد المروحية” إضغط هنا