معهد “كارنيغي”: كيف يمكن لحوارات الأمن الإقليمي معالجة معضلة الشرق الأوسط؟
يرى الكاتبان عمر حمزاوي وناثان براون أنّ الدول العربية بحاجة مؤسسات متعدّدة الأطراف للعمل على حل المعضلات السياسية التي عانت منها على مدى عقود ماضية. وفي دراسة نشرها موقع معهد "كارنيغي"، دعا الكاتبان للتعامل مع الفلسطينيين كمجتمع وطني ومنحهم شكل من أشكال تقرير المصير من أجل التوصل إلى الاستقرار في الشرق الأوسط.
في ما يلي الترجمة الكاملة للدراسة من الجادة:
تمر دول الشرق الأوسط – وشعوبه – بمرحلة حرجة من انعدام الاستقرار والأمن، من دون الأدوات الدبلوماسية اللازمة لمعالجتها أو حتى إدارتها. فهل يمكن للدول العربية المساعدة في بلورة بعض هذه الأدوات؟
إنّ التاريخ سيدفعنا إلى التشكيك في أي شيء يتجاوز التنسيق المحدود، لكنّ التحوّلات على المستوى العالمي (وخاصة دور الولايات المتحدة) وعلى المستوى الإقليمي (مع سعي الجهات الفاعلة الرئيسية إلى الهيمنة بطرق مقلقة) تخلق فرصًا واحتياجات أكبر.
التحدّي الإقليمي
أثبتت الفترة الممتدة من اندلاع حرب غزة في تشرين الأول/ أكتوبر 2023 وحتى يومنا هذا العجز الإقليمي والدولي عن حل الحروب والصراعات سلميًا، كما أدّت إلى توسّع غير مسبوق في استخدام القوة العسكرية في مناطق مختلفة من الشرق الأوسط، مع زيادة خطيرة في مبيعات الأسلحة الدولية لدول المنطقة، مما ينذر بتصعيد أكبر.
لا تبشّر صراعات اليوم بنتائج واضحة، بل بأشكال متطوّرة من العنف المستمر. إنّ استمرار بعض الصراعات الرئيسية في المنطقة من دون حل، ينذر بصراع دائم وما يرتبط به من المزيد من إراقة الدماء والدمار.
ومن المرجّح ألا تخدم النتيجة مصالح أحد. تستمر حرب غزة حتى يومنا هذا لأنّ الصدمة الجماعية التي سببتها هجمات حماس في 7 تشرين الأول/ أكتوبر 2023 لا تزال تسيطر على السياسة الإسرائيلية والمشاعر الشعبية، وكذلك بسبب إنكار الحقوق الفردية والوطنية للفلسطينيين – وهو إنكار ساهم في تهيئة الظروف المواتية للصراع الحالي.
إنّ العنف المستمر يقوّض أي أمل في التوصل إلى اتفاق حول رؤية مقبولة لحكم شؤون غزة والضفة الغربية والقدس الشرقية، وهي رؤية تضمن أمن الإسرائيليين وبعض أشكال تقرير المصير الوطني للشعب الفلسطيني.
يرتبط التوسّع الإقليمي لحرب غزة إلى مناطق أخرى في الشرق الأوسط – لبنان، سوريا، العراق، إيران واليمن – بأنشطة إيران المصمّمة لاستخدام الجهات الفاعلة غير الحكومية المتحالفة معها مثل حزب الله في لبنان وأنصار الله (المعروفين أيضًا باسم الحوثيين) في اليمن لمهاجمة إسرائيل.
في العقود الماضية، أحاطت إيران، عن طريق تزويد حلفائها بالأسلحة، إسرائيل بترسانة من الصواريخ والطائرات من دون طيار القادرة على تهديد أمنها وتقويض سلامة المدنيين – خاصة في المناطق الشمالية التي تحد لبنان – لكنّ التوسّع الإقليمي للحرب مرتبط أيضًا باستعداد إسرائيل الدائم لنشر قوتها العسكرية لضرب أعدائها، والنتيجة هي شرق أوسط مزدحم بالميليشيات المسلّحة ومحاط بحروب طويلة الأمد وعمليّات عسكرية وسباق تسلّح خارج عن السيطرة.
إخفاقات الدبلوماسية
يُعدُّ الشرق الأوسط المنطقة الوحيدة تقريبًا في العالم التي تفتقر إلى هيئات متعدّدة الأطراف دائمة مُصمّمة للدبلوماسية، منع النزاعات، وتنسيق الأمن. في معظم المناطق الأخرى، توجد هياكل إقليمية شاملة من نوع ما؛ حتى خلال الحرب الباردة في النصف الثاني من القرن العشرين، وُجدت هياكل للتواصل بين الكتل الرئيسية. أما في الشرق الأوسط، فلا يُمكن بناء مثل هذه الهياكل لأنّ الجهات الفاعلة الرئيسية ترفض التعامل مع بعضها البعض. وهذا يعني أنه في كل صراع – كما هو الحال في غزة، لبنان، سوريا، اليمن، ليبيا والسودان – يجب إعادة هيكلة هياكل مؤقتة محدودة الفعاليّة.
لا يوجد في الشرق الأوسط ما يُعادل منظمة الأمن والتعاون في أوروبا. تقتصر ترتيبات الدفاع المشترك بين الدول الأعضاء في جامعة الدول العربية على تلك الدول، وقد كانت غير فعّالة إلى حد كبير في منع النزاعات أو احتواء الحروب الإقليمية، حتى بين الدول العربية: الغزو العراقي للكويت عام ١٩٩٠ مثال قديم على ذلك؛ ومن الأمثلة الأحدث النزاع الحدودي المستمر بين لبنان وسوريا.
بذلت دول الشرق الأوسط غير العربية – إسرائيل، إيران وتركيا – محاولات سابقة لترتيبات أمنية جماعية، لكنّ هذه المحاولات إما باءت بالفشل، مثل حلف بغداد في خمسينيات القرن الماضي، أو تذبذبت بسبب تحوّلات جذرية في السياسة الداخلية والمشاعر الشعبية – على سبيل المثال، أنهت الثورة الإسلامية في إيران عام 1979 التنسيق الأمني القائم منذ فترة طويلة بين نظام محمد رضا بهلوي وإسرائيل.
وأدى صعود الإسلاميين إلى السلطة السياسية في تركيا منذ أوائل القرن الحادي والعشرين، وتأكيد سيطرتهم على السياسات الخارجية والدفاعية، إلى استبدال التعاون بين تركيا وإسرائيل بالخلاف، كما أنّ إيران وتركيا منخرطتان منذ فترة طويلة في سباق على مناطق النفوذ في سوريا والعراق، مما أدى في السنوات الأخيرة إلى توترات بين البلدين. لأكثر من قرن، كان أي تنسيق إقليمي يُحقَّقُ يتم في سياق هيمنة قوة خارجية (مثل المملكة المتحدة والولايات المتحدة)، أو أحيانًا في سياق التنافس بين القوى العالمية (خاصةً خلال الحرب الباردة). لم تُسهم هذه الترتيبات في حل النزاعات الإقليمية، وشعر الكثيرون في الشرق الأوسط بأنها تحمي الظلم والتفاوت القائمين وتُفاقمهما بشدة، كما بدا أنها حالت دون ظهور ترتيبات بديلة متعددة الأطراف.
في السنوات الأخيرة، لم تُبدِ الولايات المتحدة أي اهتمامٍ بـ”السلام الأميركي”. صحيحٌ أنها نشطةٌ للغاية في المنطقة، لكنها بالكاد تسعى إلى أي شيءٍ تعتبره معظم الدول والشعوب سلامًا، وتدفعها عمومًا تفاهماتٌ مُتناحرةٌ بشأن مصالحها الوطنية، إلى جانب تحالفاتٍ مع شركاء مُفضّلين مُحددين، ومحاولاتٍ للضغط عليهم للعمل معًا، وأيّ اتساقٍ يُقدّمه هذا النهج العام، يُقوّضه سلوكٌ أميركيٌّ متقلّبٌ ناجمٌ عن عدم الاستقرار والاستقطاب الداخليين.
في اللحظة العالمية الراهنة، حيث تُعاني الولايات المتحدة من تراجعٍ في استثمارها في صنع السلام، وقوى عظمى أخرى، إما من ضغوطٍ متزايدةٍ في الشؤون الإقليمية (كما هو الحال مع الصين) أو مُستنزفةٍ بسبب انخراطها في حروبٍ مُستعرةٍ في أماكن أخرى (كما هو الحال مع الاتحاد الأوروبي وروسيا)، فإنّ الحاجةَ إلى منع الصراعات متعددة الأطراف وتنسيق الأمن بين دول الشرق الأوسط أصبحت مُلحّةً للغاية.
لكن رغم هذه الحاجة الماسّة، تجلّت محدودية فعالية الدبلوماسية متعددة الأطراف والعمل الجماعي في الشرق الأوسط بشكل مؤلم منذ اندلاع حرب غزة. لم يتمكّن الوسطاء بين إسرائيل وحماس، – تحديدًا مصر وقطر – من تمديد ترتيبات وقف إطلاق النار إلى ما بعد شهري كانون الثاني/ يناير وشباط/ فبراير 2025، بعد أن سحبت إدارة الرئيس الأميركي دونالد ترامب الدعم الدبلوماسي والأمني لجهود البلدين الذي سبق أن قدمته إدارة جو بايدن. عملت الولايات المتحدة بنجاح مع مصر وقطر للتفاوض على اتفاق وقف إطلاق النار، وتقدّمت لتصبح ضامنًا له. ومع ذلك، عندما ترددت إسرائيل في تنفيذه، تخلّت الولايات المتحدة عن اتفاقيتها.
من المؤكد أنّ هناك هيكلًا إقليميًا واحدًا له تاريخ وقوة صامدة، وهو جامعة الدول العربية. لا تدّعي هذه المنظمة إنها تشمل الشرق الأوسط بأكمله، بل إنها تتيح إمكانية الدبلوماسية متعددة الأطراف وتنسيقًا أمنيًا أكبر.
ومع ذلك، شاب المحاولات السابقة لبلورة موقف عربي موحّد تجاه النزاعات الإقليمية، سواءً من خلال جامعة الدول العربية أو إلى جانبها، عيبان:
أوّلًا، كان من الصعب بلورة سياسة عربية موحّدة، حتى عندما تبدو المواقف الدبلوماسية متقاربة بما يكفي لتحقيق ذلك. وكانت النتيجة، في المجمل، إجراءات منفصلة وغير منسّقة بشكل جيد، يسهل على الدول الإقليمية والقوى الدولية الأخرى تجاوزها أو تجاهلها أو تفكيكها. كان ينبغي أن تكون الإجراءات المنسّقة بين العرب، كجهات فاعلة إقليمية رئيسية في الشرق الأوسط، أكبر من مجموع أجزائها، لكنّ ذلك لم يحدث تقريبًا.
ثانيًا، مهما كانت السياسات الموحّدة التي صاغتها جامعة الدول العربية، فإنها لم تكن مصحوبة باستراتيجيات دبلوماسية حازمة. وسرعان ما تلاشى إعلان دمشق، الذي أصدرته سوريا، مصر ودول مجلس التعاون الخليجي بعد تحرير الكويت عام 1991، والذي اعتمد ترتيبات أمنية جماعية بين الدول الموقعة عليه، عندما فضّلت حكومات الخليج إبرام اتفاقيات دفاع ثنائية مع الولايات المتحدة.
لعلّ مبادرة السلام العربية، التي أُعلن عنها عام 2002، تُعدُّ السياسة العربية المشتركة الأكثر واعدةً في العقود الأخيرة. وقد اتسمت هذه المبادرة، التي أيّدتها جميع الدول الأعضاء في جامعة الدول العربية، بالجرأة، ووفّرت فرصًا حقيقية لشرق أوسط أكثر سلامًا، إلا أنه عندما تجاهلتها إسرائيل، وحرفتها إدارة جورج دبليو بوش عن مسارها، بقيت مصدرًا للنقاش الدبلوماسي بدلًا من اقتراح سياسي متماسك وقوي.
حاجة ماسة
إنّ افتقار الشرق الأوسط للدبلوماسية متعدّدة الأطراف والتنسيق الأمني لمنع النزاعات وحلّها قد خلق اعتمادًا طويل الأمد في المنطقة على الجهود الدولية المؤقتة للتفاوض على ترتيبات وقف إطلاق النار والتسويات السلمية لإنهاء الحروب المستمرة بين الدول والمواجهات العسكرية بين الدول والجهات المسلّحة غير الحكومية. وفي العديد من الحالات، فشلت هذه الجهود في تهيئة الظروف لتسويات سلمية دائمة.
لكي تنجح جهود صنع السلام، يجب أن تسعى إليها القوى الدولية بعزم وإصرار. وقد نجحت بعض السياسات البريطانية والأميركية في النصف الأول من القرن العشرين – مثل اتفاقيات الهدنة بين الطرفين الإسرائيلي والفلسطيني في حرب عام 1948، والتي تم الالتزام بها في الغالب حتى اندلاع حرب عام 1967.
وفي النصف الثاني من القرن، نجحت بعض المبادرات التي قادتها الولايات المتحدة – بما في ذلك الوساطة الناجحة في مفاوضات السلام بين إسرائيل ومصر في سبعينيات القرن الماضي، وبين إسرائيل والأردن في تسعينياته، بالإضافة إلى المشاركة الأميركية الأقل نجاحًا في عملية أوسلو بين الإسرائيليين والفلسطينيين. ولكن إلى جانب هذه الأمثلة القليلة، فإنّ القوى الدولية تراجعت في كثير من الأحيان عن التفاوض على اتفاقيات السلام في الشرق الأوسط أو أصبحت مترددة مع مرور الوقت في استثمار أدواتها الدبلوماسية والسياسية لتنفيذها بحسن نية.
كذلك، جرت معظم الجهود الدولية لصنع السلام في الشرق الأوسط في بيئة أبدت فيها الجهات الفاعلة الإقليمية الرئيسية رفضًا قاطعًا للتفاوض مع بعضها البعض، أو حتى الاعتراف بوجود بعضها البعض. والوضع اليوم أكثر صعوبة، فثلاث دول مجاورة للعالم العربي، إسرائيل، إيران وتركيا، ليست مجرّد دول متنافسة تُنفّذُ سياسات تُقوّض الاستقرار والأمن الإقليميين، بل تسعى كل منها أيضًا إلى شكل من أشكال الهيمنة الإقليمية.
اتخذ التنافس الثلاثي بين إسرائيل، إيران وتركيا أشكالًا بالغة الخطورة، وأدى إلى نوبات من الحروب المفتوحة في مناطق مختلفة من الشرق الأوسط. وحتى عندما أظهرت هذه الدول – وحلفاؤها من غير الدول – بعض ضبط النفس، دفعت شعوب العديد من دول المنطقة ثمنًا باهظًا.
وقد لا ينطبق هذا على الفلسطينيين واللبنانيين، السوريين، اليمنيين، الليبيين والسودانيين فحسب، بل أيضًا على الإسرائيليين، الذين تبدو حكومتهم حاليًا القوة الأكثر هيمنة في الشرق الأوسط. إنّ النهج الذي تنتهجه القيادة الإسرائيلية الحالية يقدّم احتمالات مغرية للهيمنة الإقليمية، والتي تحمل في الواقع مخاطر عميقة على مستقبل البلاد.
ببساطة، لا يهتم قادة إسرائيل اليوم بالتعامل مع الفلسطينيين كمجتمع وطني، بل كأفراد، وربما كأفراد غير مرحّب بها في أراضٍ تسيطر عليها دولتهم. وقد تفاعل قادة إسرائيل بمزيج من الفتور والعداء مع أي مبادرة دبلوماسية إقليمية أو دولية تُعامل الفلسطينيين كمجتمع وطني، أو تُشرك ممثّليهم المعترف بهم دوليًا، منظمة التحرير الفلسطينية والسلطة الفلسطينية. وموقف قادة إسرائيل ثابت ومُلحّ في هذا الصدد.
وفي الوقت الحاضر، يحظى مبرّر هذا النهج بقبول واسع في المجتمع الإسرائيلي. حتى قبل السابع من تشرين الأول/ أكتوبر 2023، أصبحت فكرة التوافق بين الصهيونية والقومية الفلسطينية بعيدة المنال بشكل متزايد في أذهان الكثيرين ممن كانوا يأملون في ذلك سابقًا. ولم تترك الصدمة الجماعية لهجمات السابع من تشرين الأول/ أكتوبر سوى مجال ضئيل للأحزاب والمنظمات السياسية التي تُطالب بأي شيء يُشبه حلّ الدولتين.
ومع ذلك، هذا لا يعني غياب النقاش في إسرائيل. لدى العديد من أركان المؤسسة الأمنية وجزء كبير من أقطاب الطيف السياسي الإسرائيلي مخاوف طويلة الأمد بشأن المسار الحالي للبلاد. ولهذه المخاوف أساس متين.
قبل عامين، كانت كل حدود إسرائيل هادئة: كانت هناك معاهدات سلام مع مصر والأردن؛ ولم تشهد الحدود مع لبنان سوى عدد قليل من المناوشات؛ وكانت هناك منطقة منزوعة السلاح بين إسرائيل وسوريا ظلّت هادئة لمدة نصف قرن، وكان ضم إسرائيل للأراضي السورية ــ مرتفعات الجولان ــ مسألة بعيدة كل البعد عن أجندة أي طرف؛ وكان التنسيق الأمني مع قوات الشرطة التابعة للسلطة الفلسطينية في الضفة الغربية متزعزعًا ولكنه قادر على الصمود؛ وكان هناك وضع مؤقّتٌ متوتّرٌ يسود مع غزة.
اليوم، تشعر القيادتان المصرية والأردنية بضغطٍ ليس فقط من الرأي العام المحلّي، بل أيضًا من احتمال مواجهة رفض إسرائيل استيعاب القومية الفلسطينية على حسابهما من خلال عمليات الطرد – وهو تهديدٌ يراه كلٌ من المعلّقين الموالين للحكومة والمستقلّين تهديدًا وجوديًا لكلا البلدين.
الإسرائيليون الذين احتفلوا بانسحاب حكومتهم من غزة ولبنان في أوائل العقد الأول من القرن الحادي والعشرين – والذين أدركوا أنّ أبناءهم لن يواجهوا احتمال الخدمة العسكرية في تلك الأماكن – يُبلّغون الآن من قِبل قادتهم إنهم سيضطرون هم أنفسهم للعودة إلى الخدمة، إلى أجلٍ غير مسمى. لقد ترك تدهور الوضع الأمني والسياسي في الضفة الغربية حركة الاستيطان الإسرائيلية تشعر بالنصر، وجزءًا كبيرًا من المجتمع الإسرائيلي يشعر بتمرّد. أُزيلت المنطقة منزوعة السلاح مع سوريا، واستُبدل التجميد طويل الأمد للعمليات العسكرية في المناطق المتاخمة لمرتفعات الجولان المحتلة بهجمات يومية تمتد جغرافيًا حتى دمشق، وأصبحت القوات الإسرائيلية الآن ملتزمةً التزامًا مفتوحًا من المؤكد أنه سيواجه تحديًا من أي قوى تُسيطر على سوريا. ولا يقل عن ذلك إثارة للقلق حقيقة أنّ وجهات نظر القيادة الإسرائيلية بشأن سوريا تبدو وكأنها ترعى التقسيم الرسمي أو غير الرسمي لهذا البلد.
هل الدول العربية صانعة سلام إقليمية؟
يمكن للدول العربية الرائدة أن تشق طريقًا مختلفًا، من خلال العمل معًا بطريقة متعددة الأطراف، نشطة، ومنسقة. على المدى البعيد، ستستفيد دول الشرق الأوسط من هيئة دائمة تُركز على الأمن الإقليمي، ولكن في الأشهر والسنوات القليلة المقبلة، ولمعالجة مخاوف الفلسطينيين والإسرائيليين، يمكن للدول العربية اتخاذ خطوات غير مسبوقة – ابتكار آليّات لتنحية الخلافات قصيرة الأمد جانبًا من أجل إعادة بناء إقليمي طويل الأمد؛ وصياغة استراتيجية مشتركة؛ وتقديم بدائل مجدية للإسرائيليين والفلسطينيين؛ وصياغة سياسات لمنع الصراعات واحتوائها مصمّمة لتحفيز تغيير سلوك السياسة الخارجية، ليس فقط لإسرائيل، بل أيضًا لإيران، وبدرجة أقل لتركيا – وحتى في هذه الحالة، لن تُحدث هذه الخطوات أي مفعول سحري بين عشية وضحاها.
ولكي ينجح هذا الجهد، يجب أن يُواصَلْ، على الأرجح بطريقة رسمية. نقترح شيئًا مثل ائتلاف إعلان دمشق الذي يهدف إلى تعزيز المصالح الأمنية طويلة الأمد للدول العربية وجيرانها في الشرق الأوسط بطريقة تُمكّن من التفاعل مع القوى الدولية – من دون الاعتماد عليها.
هذا الاقتراح ليس بديلًا عن هيكلية لحوار أمني إقليمي، لكنّ نهجًا عربيًا منسّقًا قد يسمح بانبثاق مثل هذه الهيكلية من مبادرة إقليمية بدلًا من أن تكون مدفوعة من جهات خارجية ذات مشاكل قصيرة الأجل ترغب في إدارتها أو خصم أو حليف محدد تهتم به.
لا بد من أن يركز أي تحالف للحكومات العربية على الأمن الإقليمي، ولكن ماذا عن النقاشات عن الحوكمة الداخلية – تلك التي قسّمت المنطقة، والعديد من الدول، منذ عام 2011؟
قد يعتقد البعض بأنّ أي تحالف إقليمي للحكومات العربية سيتطلب منها دفن الآمال في سلطة سياسية أكثر خضوعاً للمساءلة ومعايير حوكمة أفضل داخل كل دولة. لا نعتقد بأنّ ذلك ما ينبغي أن يكون الحال عليه.
إنّ مسائل الإصلاح السياسي والحوكمة والمساءلة وحقوق الإنسان بالغة الأهمية، لكنّها ليست من المسائل التي تمكّن العمل الإقليمي من معالجتها، بل على العكس تمامًا. حتى قبل عام 2011، أدى التدخل العابر للحدود إلى تفكّك الدولة أو انهيارها – في لبنان، سوريا، العراق، اليمن والسودان. يمكن أن يدعم هذا التوافق الذي نقترحه عملياتٍ للفلسطينيين في الأراضي المحتلة، ولهياكلَ تُحسّن حماية الحقوق الوطنية وحقوق المواطنين في بعض الدول المتدهورة. أما بالنسبة لبقية المنطقة، فإنّ العقد والنصف الماضيين يُشيران إلى أنه إذا أُريدَ تعزيز العدالة الاجتماعية والسياسية والاقتصادية داخل الدول العربية، فمن غير المرجح أن يتحقق ذلك من خلال العمل الإقليمي.
إن الفترتين اللتين شعرت فيهما الحكومات العربية برغبة ملحّة بالتدخل في السياسة الداخلية وعلاقات الدولة بالمجتمع في الدول الأخرى – أواخر الخمسينيات وأوائل الستينيات والسنوات التي تلت عام 2011 – أدتا إلى مزيد من عدم الاستقرار والفوضى مقارنةً بالديمقراطية والحكم الرشيد. إنّ سيادة الدولة مفهوم يسهُل إساءة استخدامه، ولكنّ الاستقرار الذي توفره مؤسسات الدولة القومية قد يُنظر إليه على أنه شرط أساسي – وإن كان غير كافٍ على الإطلاق – لإحداث تغيير سياسي محلي إيجابي.
لكنّ الوعد الرئيسي لمثل هذا المسار يكمن في ما يمكن أن يحققه في مجال الأمن الإقليمي. في البيئة الإقليمية والدولية الراهنة، تواجه الدول العربية تهديدات أمنية عديدة يجب عليها مواجهتها معًا، ومن خلال الوسائل الدبلوماسية، والمقترحات التفاوضية، والحلول السلمية، والترتيبات متعددة الأطراف.
تعود إسرائيل إلى التصعيد العسكري في غزة، مانعةً دخول المساعدات الإنسانية والمعدات اللازمة لإعادة الإعمار، كما يتزايد الترويج لخطط التهجير الجماعي لأكثر من مليوني فلسطيني، وسط مزيج من التشجيع واللامبالاة من الإدارة الأميركية الحالية.
لكنّ العمل المشترك بين الدول العربية صعب، فالمشكلة ليست صراعًا جوهريًا بين المصالح الوطنية – فرغم اختلاف التوجهات والأولويات، يتّفق الجميع على رؤية مشتركة لشرق أوسط تُحترم فيه الحدود، ويُصدّ فيه الجيران عن مساعيهم للهيمنة على المنطقة، وتُؤمّن فيه التجارة والمالية. وفي ما يتعلّق بجميع القضايا المتعلقة بإسرائيل وفلسطين، فإنّ مضمون مبادرة السلام العربية لعام 2002 سيظل يوحّدهم، حتى لو فُقد زخم “المبادرة” من تلك العبارة منذ زمن طويل.
لكنّ الدول العربية الرئيسية تمتلك أصولًا وتفاهمات مختلفة – تفاهمات غالبًا ما تجعلها مشبوهة وأكثر ميلًا إلى التنافس على الاستراتيجيات المشتركة. أي فكرة عن التكامل تتراجع أمام هذه التنافسات. ونتيجة لذلك، تخسر جميع الدول العربية من حيث مصالحها الإقليمية. إنّ غياب العمل المشترك بينها يترك آفاقًا واسعة للجهات الفاعلة الإقليمية والدولية ذات المفاهيم المختلفة جدًا للنظام الشرق أوسطي المناسب – مفاهيم تبدو فوضوية وخطيرة للغاية على الدول العربية.
هناك مبادرات فردية تُبشّر بنهج عربي أكثر تنسيقًا وتكاملًا، فقد شكّلت مصر مجموعة عمل لحشد الدعم الإقليمي والدولي لخطة إعادة إعمار غزة التي اعتمدتها القمة العربية الطارئة قبل بضعة أسابيع. كما تتحرّك مصر، بالشراكة مع قطر، لتجديد مفاوضات وقف إطلاق النار بين إسرائيل وحماس، ولحلّ كيفية حكم غزة من دون حماس، بالإضافة إلى مسألة نزع سلاحها. وبالتنسيق الوثيق مع السلطة الفلسطينية، يُنبّه العرب، فرادى وجماعات، المجتمع الدولي إلى تصاعد العنف في الضفة الغربية، والخطر الوشيك المتمثّل في النزوح الجماعي للفلسطينيين منها أيضًا.
علاوةً على ذلك، تتجلّى الوحدة في بعض المواضيع، إذ تُدين مصر والأردن التداعيات السلبية للسياسات والإجراءات الحالية لحكومة رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو في الأراضي الفلسطينية المحتلة على معاهدات السلام بين البلدين وإسرائيل، وتُؤكّدان رفضهما القاطع لجميع خطط التهجير. في هذه الأثناء، تؤكد السعودية رفضها التطبيع مع إسرائيل قبل قيام الدولة الفلسطينية المستقلّة، وانسجامها مع الإجماع الفلسطيني والعربي في هذا الشأن.
تُدرك القاهرة وعمان والرياض أنّ هذه المواقف قد لا تُؤدي إلى تغيير في سياسات تل أبيب العنيفة، وقد تُؤدي إلى ضغوط من واشنطن لإجبارها إما على التخلّي عن معارضتها للتهجير، كما هو الحال في مصر والأردن، أو، كما هو الحال في المملكة العربية السعودية، على قبول التطبيع من دون تطبيق مبدأ الأرض والدولة الفلسطينية مقابل السلام مع إسرائيل.
تُمثّل هذه الاصطفافات بداية جيّدة، لكن المهمة لا تقتصر على السعي وراء مبادرات دبلوماسية مُصممة لاحتواء التصعيد المستمر في الأراضي الفلسطينية – وفي لبنان وسوريا أيضًا – بل تشمل أيضًا تبنّي منظور طويل الأمد تجاه إسرائيل، يجذب المجتمع أكثر من القيادة الحالية، ويُقدّم نظامًا إقليميًا سلميًا كبديل للاستخدام المُوسع للقدرات العسكرية والسعي الخطير للهيمنة الإقليمية.
لا ينبغي أن يكون الهدف العربي إسقاط القيادة الإسرائيلية – فهذه ستكون مهمة عبثية وغير مُجدية على الأرجح. إنّ ما نريده هنا هو تقديم رؤية قوية وقابلة للتطبيق للمواطنين الإسرائيليين الأقل ميلًا إلى النظرة العدوانية لمستقبلهم: رؤية للشرق الأوسط السلمي الذي يقدّم شيئًا مختلفًا عن حرب الاستنزاف الأبدية على جبهات متعددة.
يجب على أي مبادرة إقليمية أن تقدم بديلًا حقيقياً للفلسطينيين وحقوقهم الوطنية، بدلًا من مجرّد التعامل مع حكمهم كمسألة تكنوقراطية تتعلق بتقديم الخدمات والشرطة. ستفشل مخططات الإصلاح الفلسطيني إذا ركّزت فقط على ممارسات محاسبية وبرامج تدريبية أفضل لقوات الشرطة؛ يجب أن تكون جزءًا من عملية تمنح الفلسطينيين شكلاً من أشكال تقرير المصير الوطني. تفتقر الوعود بإقامة دولة في نهاية المطاف إلى أي مصداقية في هذه المرحلة؛ يجب أن تكون الالتزامات أكثر من مجرد خطابات، وأن ترتبط بمسار واضح نحو الدولة الفلسطينية.
وهذا يعني التعامل بجدية مع الفلسطينيين كشعب ذي سياسة لا كشخصيّات متفرّقة. عندما تختار كل جهة خارجية ممثّلها المفضّل، يتفاقم تشرذم السياسة الفلسطينية، بدلًا من التغلّب على هذا التشرذم. يتطلب الأمر إعادة بناء الحركة الوطنية الفلسطينية بشكل ما، ومن الممكن أن تقود منظمة التحرير الفلسطينية هذه الحركة.
لكن كل هذا لا يتعلّق إلا بتحدٍّ واحد من التحديات العديدة التي تواجه الشرق الأوسط. ماذا عن التحديات الأخرى في لبنان وسوريا واليمن وأماكن أخرى؟ ما الذي يمكن فعله لإنهاء الحروب المستمرّة ومنع الصراعات في المستقبل؟
من غزة إلى المنطقة
يواجه العرب أيضًا تهديدات أمنية معقّدة في لبنان وسوريا، حيث تواصل إسرائيل ضرباتها العسكرية. والنتيجة في كلا البلدين العربيين هي تصاعد العنف وعدم الاستقرار، مما يُقوّض فرص بناء التوافق الداخلي اللازم للإصلاح السياسي والمؤسسي الذي يُمكّن لبنان من تجاوز الصراعات الطائفية وتبعيّة القرارات الوطنية لأطراف خارجية، ويُمكّن سوريا من تعزيز التعايش السلمي بين مكوّناتها المختلفة، وإعادة بناء مؤسّسات الدولة بهوية وطنية جامعة بعد عقود من الديكتاتورية وسنوات من الحرب الأهلية.
هنا أيضًا، وبمحض إرادتها الفردية ورغبتها الجماعية، لا خيار أمام الدول العربية سوى العمل الدبلوماسي والسلمي المشترك لتعزيز اتفاق وقف إطلاق النار الحالي في لبنان. وفي ما يتعلّق بسوريا، يجب على القادة العرب ألا يكتفوا بمطالبة الحكومة الجديدة في دمشق بإطلاق عملية سياسية شاملة والالتزام بمعايير سيادة القانون لضمان حقوق المواطنة المتساوية لجميع السوريين، بل يجب عليهم أيضًا مطالبة المجتمع الدولي باتخاذ إجراءات حقيقية لردع إسرائيل.
لقد تجاهلت القوى الدولية إلى حد كبير الهجمات الإسرائيلية المتكررة على سوريا، والضم المنهجي لمزيد من الأراضي المتاخمة لمرتفعات الجولان المحتلة والمنطقة منزوعة السلاح، والتحريض على التفتيت بذريعة حماية الأقلية الدرزية.
من ناحية أخرى، تُشكّل السياسات الإيرانية في الشرق الأوسط، باعتمادها الهيكلي على تسليح حلفائها الشيعة لتهديد إسرائيل ومصالح الولايات المتحدة، تحديًا أمنيًا مباشرًا للدول العربية ورؤاها لمنطقة سلمية ومستقرّة. لا يمكن فهم امتداد حرب غزة إلى مناطق مختلفة في الشرق الأوسط من خلال الإشارة بشكل أحادي الجانب إلى السياسات والإجراءات الإسرائيلية وتجاهل دور إيران في تسليح جماعات مثل حزب الله في لبنان، وقوات الحشد الشعبي في العراق، والحوثيين في اليمن وخلق الحوافز لهم للانخراط في العمل العسكري.
كما أنّ المصالح الأمنية العربية ليست بمنأى عن التأثير السلبي للعمليات العسكرية الحوثية في البحر الأحمر، والتي قوّضت الأمن البحري في هذا الممر المائي الحيوي لمصر والسودان والمملكة العربية السعودية والأردن، كما أنها قلّصت بشدة التجارة العالمية عبر قناة السويس، مما أدى إلى انخفاض كبير في الإيرادات المصرية من القناة.
للصراع بين إيران وإسرائيل والولايات المتحدة العديد من العناصر: البرنامج النووي الإيراني، قدرات إيران الصاروخية والطائرات المسيرة وتأثيرات العقوبات الأمريكية على الواقع الاجتماعي والاقتصادي المحلي في الجمهورية الإسلامية. لطالما هدّدت التوترات المستمرة آفاق الاستقرار والسلام في الخليج، ودفعت دول مجلس التعاون الخليجي إلى زيادة إنفاقها العسكري والسعي للحصول على ضمانات أمنية من القوى الدولية التي لها مصالحها ومطالبها الخاصة، وأبرزها الولايات المتحدة.
الأدوات اللازمة
في مواجهة كل هذه الصراعات، تحتاج الدول العربية إلى تطوير آليّات عمل جماعي غير متاحة لها حاليًا. ويمكن لترتيب دائم ومستدام، على غرار إعلان دمشق، أن يحل محل الاتفاقيات المؤقتة وقصيرة الأجل. ويتعيّن على القادة العرب الانخراط مع جيرانهم في حوار حول الأمن الإقليمي، يمكن أن ينشأ من خلال جهد عربي مشترك لتحقيقه. إنّ منع الصراعات واحتوائها، ومسائل الحرب والسلام، بالإضافة إلى إنهاء سباق التسلّح الحالي والقضاء على أسلحة الدمار الشامل، كلّها قضايا يمكن مناقشتها في منتديات الحوار، وهي لا تنتقص من أهمية منح الشعب الفلسطيني منظورًا وطنيًا وتقديم عرض سلام للمجتمع الإسرائيلي.

