على حافة النار: لماذا تعود إيران والولايات المتحدة إلى التفاوض من بوابة عُمان؟
بين سلسلة جبال صخرية مطلّة على خليج عُمان، يقع فندق “قصر البستان” الفخم في مسقط، حيث بدأت قبل أكثر من عقد أولى جولات التفاوض السري بين إيران والولايات المتحدة. لم يكن اختيار المكان صدفة. فالعزلة الجغرافية، والهدوء الأمني، والحياد السياسي، كلها عناصر شكّلت البيئة المثالية لانطلاق حوار معقّد، بعيداً عن الضجيج. ومنذ ذلك الوقت، أصبحت عمان عنواناً ثابتاً في ذهنية طهران كلما اشتد الوطيس وتطلب الأمر قناة مضمونة، أمينة، وهادئة.
واليوم، تعود هذه القناة لتُفتَح من جديد، في لحظة إقليمية حرجة، بعد أن أوصلت الحرب، العقوبات، وتراجع النفوذ إيران الإقليمي إلى مفترق طرق استراتيجي. في مقدمة المشهد التفاوضي، يعود وزير الخارجية الإيراني عباس عراقجي لمواجهة الأميركيين لكن هذه المرة عبر بوابة جديدة تتمثل في مبعوث ترامب للشرق الأوسط ستيفن ويتكوف، ضمن حوار ثنائي مباشر لا يخلو من المحاذير، لكنه يحمل بذور تسوية أولية.
قنوات متقاطعة… وتكامل الوساطات
بالنسبة لإيران، ليست عُمان وحدها ساحة التواصل. فقد أدّت قطر أيضاً دوراً محورياً خلال السنوات الأخيرة، خاصة في مفاوضات تبادل السجناء والتنسيق غير المباشر. والواقع أن ما يحدث اليوم في مسقط ليس منفصلاً عن ما جرى سابقاً في الدوحة، بل يُكمله. هناك تكامل عملي بين الدورين العُماني والقطري؛ الدوحة تفتح الأبواب، ومسقط تقود التفاهمات الأكثر عمقاً، بما يضمن السرية والثقة وتراكم الخبرات التفاوضية بين جميع الأطراف.
محاولات أخرى للوساطة لم تنجح. الإمارات، التي سلّمت مؤخراً رسالة من دونالد ترامب إلى القائد الإيراني علي خامنئي، لم تُقابل برد إيجابي في طهران. في نظر الإيرانيين، التحالف الإماراتي الوثيق مع إسرائيل وفّر سبباً كافياً لتجاهل هذه القناة. كما حاولت روسيا، المتراجعة إقليمياً، أن تُعيد التموضع كمُيسِّر بين طهران وواشنطن، لكن مبادرتها لم تتجاوز النطاق البروتوكولي، ولم تلقَ تجاوباً فعلياً.
الانهيار السوري… والخسارة الاستراتيجية
التفاوض الحالي لا ينطلق من موقع قوة إيراني، بل من قلق عميق حيال تحولات إقليمية تهدد البنية الاستراتيجية التي بنتها طهران منذ 2003. أبرز هذه التحولات كان سقوط نظام بشار الأسد، الحليف الأوثق لإيران في المشرق. النظام انهار بفعل الانهيار الاقتصادي، الانقسامات داخل النخبة، وتخلي موسكو عن حمايته في لحظة مصيرية.
ومع انتقال السلطة إلى حكومة انتقالية بقيادة أحمد الشرع، بادرت دمشق الجديدة إلى إعلان استقلالها السياسي عن المحاور، رافضةً استمرار أي وجود عسكري أجنبي، وعلى رأسه الإيراني. عملياً، يعني ذلك خروج إيران من سوريا وفقدانها ممراً برياً طالما اعتمدت عليه لتعزيز نفوذها في لبنان وغزة.
تمدد محاصر… من لبنان إلى العراق
إلى جانب الخسارة السورية، يواجه حزب الله ضغوطاً داخلية وخارجية غير مسبوقة. التوازن في جنوب لبنان هش، والتهديد الإسرائيلي قائم. أما في العراق، فالحشد الشعبي يواجه حملة ممنهجة لتقليص نفوذه، بدعم أميركي مباشر وتأييد داخلي آخذ بالتصاعد.
تصنيع أوراق جديدة في الهامش الإفريقي
في موازاة هذه الخسائر، تتحرك إيران بهدوء استراتيجي نحو الجنوب، مستكشفة آفاقاً جديدة لتوسيع نفوذها في أفريقيا، وبشكل خاص في السودان والقرن الإفريقي. فبعد سنوات من القطيعة، استأنفت طهران علاقاتها الدبلوماسية مع الخرطوم، وسرعان ما دخلت في تفاهمات أمنية وعسكرية واقتصادية أولية.
من منظور إيراني، السودان يوفّر موقعاً جغرافياً بالغ الأهمية: على البحر الأحمر، بالقرب من مضيق باب المندب، وفي تقاطع المصالح الخليجية والإسرائيلية والأميركية. وبالمثل، فإن القرن الإفريقي—من الصومال إلى إريتريا وجيبوتي—يُشكّل هامشاً استراتيجياً لإعادة التموضع، بعيداً عن الضغط المباشر الذي تتعرض له في المشرق العربي.
تعكس هذه التحركات رغبة إيرانية واضحة في “تصنيع أوراق جديدة”، لا لتحل مكان أوراق الشام، بل لتمنح طهران هامشاً جيوسياسياً إضافياً، تساوم عليه لاحقاً في طاولة التفاوض الكبرى.
ما بعد سليماني… فصل الملفات
أكثر ما يلفت في هذه المرحلة هو تجاوب إيران مع رسائل مباشرة من ترامب، رغم رمزية وخطورة اغتيال قاسم سليماني قبل خمسة أعوام. طهران، التي طالما اعتبرت العملية خطاً أحمر، اختارت الآن فصل الملفات. ردّ القائد الإيراني على رسالة ترامب، التي حملها وسيط إماراتي، جاء محدوداً في مضمونه، لكنه لافت في توقيته: استعداد مشروط للحوار، بشرط حصره بالملف النووي واستبعاد البرنامج الصاروخي والدور الإقليمي.
نحو اتفاق إطار… مرجعية 2015 لا تزال حيّة
لا يتوقع أحد أن تثمر هذه الجولة اتفاقاً شاملاً. لكن ربما ما يُبحث به الآن هو اتفاق إطار مبدئي، يعيد ضبط سقف التوتر، ويمنح الطرفين متنفساً سياسياً. ورغم انسحاب ترامب من الاتفاق النووي عام 2018، لا تزال وثيقة 2015 تشكّل من وجهة نظر إيرانية مرجعية سياسية وتقنية يمكن البناء عليها لربط النزاع، وتأسيس حوار أوسع لاحقاً.
هذا السيناريو يُعيد إلى الأذهان ما جرى في مسقط عام 2012، حين التقى الأميركيون والإيرانيون في مفاوضات سرية استمرت شهوراً قبل أن تخرج نتائجها إلى العلن. يومها، بدأت الجولة في عهد حكومة أصولية، وتوّجت باتفاق شامل في عهد إدارة معتدلة.
اليوم، على الرغم من تشابه المكان، إلا أن المفاوضات تبدأ علانية، وفي عهد حكومة إيرانية إصلاحية. كما أن الوقت قد لا يسعفها كي تطول لتحصدها في طهران حكومة بصبغة مختلفة.
عُمان… حيث تُصاغ التفاهمات لا تُعلن
في النهاية، ليست مسقط مجرد مكان آمن للتفاوض، بل حاضنة هادئة لصياغة لحظات التحول. حين تتعقّد الساحات وتتشظى القنوات، تعود العواصم إلى المكان الذي لا يُفاجئ ولا يُصعّد. عُمان ليست لاعباً في الحلبة، لكنها تعرف كيف تُنصت للمقاتلين وهم يطلبون هدنة.
ما يُطبخ اليوم في عُمان ليس نهائياً، ولا معلناً، لكنه اختبار مبكر لاحتمالات الخروج من دوّامة التصعيد، وقد يقود نحو لحظة تفاهم… ولو مؤقتة.