المختطفة الإسرائيلية في بغداد… مفتاح اتفاق تبادل أسرى مع لبنان؟
كانت بغداد في تلك الليلة تتحرك على إيقاعها المعتاد. ضجيج الأسواق، سباق للسيارات مع الوقت والازدحام، ومقاهٍ تضجّ بنظريات المؤامرة والحكايات القديمة والجديدة. لكن في أحد تفرّعات حيّ الكرادة، لم يكن ما يحدث مألوفًا. سيارة توقفت للحظات، أبواب فتحت بسرعة، امرأة صعدت أو ربما أُجبرت على الصعود، ثم اختفى الجميع تمامًا. لم يُسمع صراخ، ولم تكن هناك مقاومة واضحة. في لحظة واحدة، أصبحت إليزابيث تسوركوف خارج المشهد، محتجزة خلف ستائر سوداء في لعبة استخباراتية إقليمية معقدة.
صباح اليوم التالي، كانت المعلومات تتسرب بصعوبة كأنّها نقاط تنزل عنوةً من خزانٍ محكم الإغلاق. من خطفها؟ ولماذا؟ وهل الأمر مرتبط بإسرائيل، أم أنها كانت ورقة مساومة منذ اللحظة الأولى؟ بعد أكثر من عامين، يبدو أن القصة بلغت مرحلة جديدة، مع طرح مقترح لتبادل الأسرى بين حزب الله اللبناني وإسرائيل، مؤشر إلى أن الروح لا تزال تدب في المحور الذي تقوده إيران.
مقترح صفقة تبادل بغطاء عراقي.. إسرائيل متردّدة
مصادر مطلعة في بغداد وبيروت تحدثت إلى “الجادة” بشرط عدم الكشف عن هويتها، وكشفت عن تفاصيل الصفقة المقترحة: إسرائيل ستطلق سراح سبعة مقاتلين من حزب الله تم اعتقالهم بين 27 أيلول / سبتمبر و27 تشرين الثاني / نوفمبر من العام الماضي، إضافة إلى القبطان البحريّ اللبنانيّ عماد أمهز، الذي اختطفته وحدة إسرائيلية خاصة في 1 تشرين الثاني/ نوفمبر 2024 خلال عملية أمنيّة معقدة في بلدة البترون شمال لبنان، على بعد أكثر من 160 كيلومترًا من الحدود. إسرائيل زعمت أن أمهز هو مسؤول في الوحدة البحرية في حزب الله، وهي تهمة رفضها الحزب بالكامل.
المثير أن الجهة الخاطفة لتسوركوف، وفق مصادر مقربة من الفصائل الشيعية المسلحة في العراق، أبدت استعدادها للمضي في الصفقة، لكنّ إسرائيل لم تعطِ بعد موقفًا حاسمًا بعد، لتترك الاقتراح معلّقًا في انتظار إحابتها. بالنسبة لحزب الله، نجاح التبادل يعني تسجيل نقطة معنوية مهمّة بعد الحرب الأخيرة، بينما ترى الحكومة العراقية أنّ إنهاء هذا الملف يمكن أن يسهم في تخفيف الضغوط الإقليمية عن بغداد، حتى لو صُوّر الأمر كنصرٍ سياسي لنتنياهو.
لماذا كانت تسوركوف هدفًا؟
تسوركوف ليست باحثة عادية في الشأن الشيعي. دخلت العراق بانتظام بجواز سفرها الروسي، وزارت لبنان مرات عدّة، وتحاورت مع شخصيات محسوبة على التيارات المختلفة، بما في ذلك التيار الصدري. في تشرين الثاني / نوفمبر 2022، عادت إلى بغداد لإجراء مقابلات مع قيادات في التيار، لكنها لم تكن تعلم أن رحلتها هذه المرة ستأخذ مسارًا مختلفًا.
بعد ترتيب لقاء مع قائد محليّ بارز، انقطعت أخبارها. إسرائيل سارعت إلى اتهام كتائب حزب الله بالمسؤولية، لكن مصادر أخرى أشارت إلى أن دوافع الاختطاف قد تكون أكثر تعقيدًا. يرى متابعون للملف أن الفصائل العراقية اشتبهت بأنها عميلة استخباراتية تسعى لاختراق التيار الصدري، فيما يعتقد آخرون أنها كانت مستهدفة منذ البداية كورقة مساومة لفرض الشروط على إسرائيل.
في تشرين الثاني / نوفمبر 2023، ظهر مقطع فيديو لها على حسابات عراقية في منصّات التواصل الاجتماعي. في الفيديو المسجّل، وتحت ضغط واضح، تحدثت عن علاقتها المزعومة مع أجهزة استخبارات إسرائيلية وأمريكية. كان واضحًا أن الهدف من الفيديو رفع قيمتها كورقة ضغط، أو ربما محاولة لإرسال رسالة غير مباشرة إلى الوسطاء المحتملين.
حزب الله بين الحسابات الداخلية والضغوط الإقليمية
منذ بدء المواجهة بين حزب الله وإسرائيل في تشرين الأول / أكتوبر 2023، خسر الحزب عددًا كبيرًا من قادته ومقاتليه، وتعرضت بنيته العسكرية لضربات قاسية. لكن ما لفت الأنظار هو غيابه عن الرد السريع على الاعتداءات الإسرائيلية الأخيرة، بما في ذلك أسر عناصره. لطالما كان الحزب واضحًا في مواقفه تجاه أسراه، فلماذا هذا الصمت الآن؟
تتقاطع تحليلات عديدة عند معطى مفاده أن الحزب يعيد ترتيب أوراقه، وأنه يفضل إبقاء ملف الأسرى تحت “غطاء عراقي” كي لا يتحمل مسؤولية الفشل في حال تعثرت الصفقة. لكن هذا الموقف محفوف بمخاطر عدّة، فالتأخر في استعادة الأسرى قد يُضعف صورة الحزب بين جمهوره، الذي لطالما اعتبر أن استعادة الأسرى من أولوياته المطلقة، وهو الذي يرفع شعارًا دائما “نحن قوم لا نترك أسرانا في السجون”.
إيران بين الواقعية والمخاطر الجديدة
ما يجري اليوم يتجاوز ملف تسوركوف. إنه جزء من إعادة تشكيل النفوذ الإقليمي لإيران. بعد سقوط نظام بشار الأسد وانهيار الحضور الإيراني في سوريا، فقدت طهران واحدة من أهم حلقات وصلها مع حزب الله. اليوم، تفرض التحولات الجيوسياسية تحديات كبيرة على إيران، سواء في لبنان أو في ساحات أخرى مثل العراق واليمن.
إحدى أبرز التحديات التي تواجه طهران وحزب الله هي التحول من المقاومة العسكرية إلى استراتيجيات أكثر دبلوماسية، مثل التفاوض على الحدود مع إسرائيل، والسعي لحل قضايا مثل مزارع شبعا وتلال كفرشوبا. هذه الملفات كانت معقدة حتى عندما كان الحزب في أوج قوته، فكيف سيكون الحال الآن مع وقف إطلاق النار الهش والضغوط الدولية المتزايدة؟
في الوقت نفسه، هناك تيار لبناني بدأ يدفع باتجاه التطبيع مع إسرائيل والانضمام إلى الإطار الإقليمي لاتفاقيات أبراهام. يرى مؤيدو هذا النهج أن لبنان قد يستفيد اقتصاديًا إذا تبنى خيار السلام، خاصة مع الدعم المالي الذي قد يأتي من بعض العواصم الخليجية. لكن هذا الطرح يتناقض مع الهوية التقليدية للبنان كـ”دولة مقاومة”، ما ينذر بصراع سياسي داخلي محتدم.
المفارقة أن المشهد قد لا يكون محصورًا بين خيار المقاومة أو التطبيع، بل يمكن أن يظهر طرف ثالث غير منظم، يتبنى خيار استمرار الكفاح المسلح بعيدًا عن حزب الله أو الدولة اللبنانية. مثل هذا السيناريو سيزيد من تعقيد الأمور، ويفتح المجال لمواجهات غير محسوبة النتائج.
ماذا عن واشنطن؟
إيران، التي رفضت التفاوض مع ترامب في ولايته الأولى، تلمّح اليوم إلى أنها منفتحة على الحوار مع إدارته، رغم أنه الرجل الذي قتل قاسم سليماني وخرج من الاتفاق النووي. لكن ما يحدد شكل العلاقة القادمة بين طهران وواشنطن لن يكون فقط الإرادة السياسية، بل أيضًا الإجراءات العملية التي قد تتخذها كل منهما.
قبل أيام من عودته إلى البيت الأبيض، لعبت دائرة ترامب دورًا في الوساطة بين إيران وإيطاليا لتأمين إطلاق سراح الصحفية الإيطالية سيسيليا سالا، التي اعتُقلت فيما بدا أنه عملية مقايضة لإطلاق سراح إيراني كان محتجزًا في روما بناءً على طلب أميركي. أحد أبرز الداعمين لهذا التحرك كان رجل الأعمال إيلون ماسك، الذي يقال إنه تدخل شخصيًا لتسهيل الصفقة.
هل ستكون هذه مقدمة لانخراط أمريكي في ملف تسوركوف؟ وهل يمكن للولايات المتحدة أن تكون وسيطًا بين إسرائيل والعراق في هذا التبادل؟ أسئلة مفتوحة، لكن المؤكد أن الصفقة المحتملة ستكون لها تداعيات تتجاوز مجرد إطلاق سراح رهينة، بل قد تكون مؤشرًّا على توازنات القوى في المنطقة.
ورقة تسوركوف بين النجاح والفشل
بينما تتحرك الاتصالات خلف الكواليس، يبقى السؤال: هل ستكون تسوركوف جزءًا من صفقة تبادل أسرى تعيد رسم بعض معادلات المنطقة؟ أم أن الجمود الحالي سيبقيها ورقة مؤجلة لمساومة لاحقة؟ ما هو واضح أن ملفها لم يعد مجرد قضية اختطاف، بل أصبح عنصرًا في لعبة أكبر تتشابك فيها حسابات إيران بهواجس العراق ومصالح حزب الله، وإسرائيل، في لحظة إقليمية شديدة الحساسية.