من الطوفان إلى التبادل.. كيف تغيرت المواقف في غزة وتل أبيب؟
في السابع من تشرين الأول/ أكتوبر 2023، أطلق محمد الضيف، القائد العام لكتائب القسام، تصريحات مصيرية وصف فيها عملية "طوفان الأقصى بأنها "رد تاريخي على عقودًا من الاحتلال الإسرائيلي والانتهاكات المستمرة".
قال الضيف في خطابه: “اليوم تُكتب صفحة جديدة في تاريخ المقاومة الفلسطينية، نعلن بدء عملية طوفان الأقصى لنضع حدًا للعدوان الإسرائيلي ونستعيد حقوق شعبنا.”
جاء هذا الإعلان ليعبر عن رؤية حماس لمرحلة جديدة من الصراع مع إسرائيل، في وقت اعتبرت فيه الحركة أن المواجهة هي السبيل الوحيد لتحقيق الحقوق الفلسطينية.
في المقابل، جاء رد رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو صارمًا وحاد اللهجة، حيث وصف العملية بأنها “إعلان حرب”، وتعهد برد غير مسبوق، معتبرًا أنها “حرب استقلال إسرائيل الثانية”. وقال في خطابه: “إسرائيل لن تقبل بهذه الجرأة. سنرد بكل قوتنا وسنواصل حتى تحقيق نصر كامل.” هذا الخطاب عكس رؤية إسرائيلية واضحة بأن الرد العسكري سيكون الحل الوحيد لإعادة السيطرة وفرض الشروط على الأرض.
بداية وضع الشروط
مع بداية الحرب، لم تقدم حماس مطالب واضحة لوقف إطلاق النار، بل ركزت على أن العملية هي جزء من النضال لتحرير الأرض الفلسطينية وإنهاء الحصار المفروض على غزة وتبييض السجون الإسرائيلية من الأسرى الفلسطينيين. هذا كان الخطاب السياسي بعد إعلان الضيف أنها “حرب تحرير المسجد الأقصى”.
في حين حددت إسرائيل أهدافها بشكل مباشر، بما في ذلك إسقاط حكم حماس في غزة، القضاء على بنية المقاومة في القطاع، تدمير الأنفاق، واستعادة الأسرى الإسرائيليين المحتجزين لدى حماس.
مع تصاعد الحرب، بدأت مواقف الطرفين تشهد تغيرات تدريجية. في تشرين الثاني/ نوفمبر 2023، طالبت حماس بوقف شامل لإطلاق النار يشمل رفع الحصار عن غزة وفتح المعابر بشكل كامل. في المقابل، أبدت إسرائيل استعدادًا مشروطًا لوقف إطلاق النار بشرط الإفراج عن الأسرى الإسرائيليين وتسليم كامل المخزون الصاروخي للحركة.
في شباط/ فبراير 2024، بدأت حماس بتقديم تنازلات من خلال الموافقة على آلية دولية لإعادة الإعمار مقابل ضمانات بعدم استهداف غزة مجددًا. من جانبها، أبدت إسرائيل مرونة فيما يتعلق بتخفيف القيود على المعابر، لكنها أصرت على مراقبة صارمة لمنع تهريب الأسلحة.
بحلول حزيران/ يونيو 2024، طلبت حماس إدخال تعديلات على المقترحات الدولية لضمان إعادة إعمار غزة وإطلاق سراح عدد كبير من الأسرى الفلسطينيين. في الوقت نفسه، وافقت إسرائيل مبدئيًا على رفع بعض القيود على دخول البضائع إلى القطاع مقابل وقف الهجمات الصاروخية.
لكن في أيلول/ سبتمبر 2024، نفت حماس إضافة شروط جديدة، وأكدت أن التأخير في التوصل لاتفاق يعود إلى تعنت إسرائيل. في المقابل، رفضت إسرائيل مقترحات جديدة تتعلق بالوجود الأمني في غزة وأصرت على ضمانات أمنية قوية.
انتهاء حرب لبنان وتحول المشهد الإقليمي
هذه التحولات في المواقف ترافقت مع تغيرات كبيرة شهدتها المنطقة، خصوصًا مع تحول شكل الحرب على جبهة لبنان واغتيال أمين عام حزب الله حسن نصرالله، ما جعل موقف حماس يصبح أضعف، وسط زخم دولي غير مسبوق خلف إسرائيل.
في تلك الفترة، لم تعد غزة هي الأولوية للقوى العالمية، بل توجهت الأنظار إلى لبنان. ومع انتهاء الحرب على الجبهة الشمالية لإسرائيل، خسرت حماس إحدى أبرز أوراق تفاوضها، تزامنًا مع تفكك محور المقاومة في المنطقة.
ومع دخول عام 2025، أظهرت المفاوضات تقدمًا ملموسًا. حيث وافقت حماس على تبادل الأسرى كجزء من صفقة أوسع تشمل وقف إطلاق النار وإعادة الإعمار. من جانبها، أعربت إسرائيل عن استعدادها لتقديم تسهيلات إضافية تتعلق بتخفيف القيود، مع التركيز على المراقبة الأمنية ومنع تصاعد العمليات العسكرية.
راهنت حماس منذ البداية على أن تشعل عملية “طوفان الأقصى” جبهات متعددة ضمن ما يُعرف بمحور المقاومة، لكن هذا الرهان لم يكن واقعيًا تمامًا. فبدلاً من اتساع الجبهات لتشمل أطرافًا متعددة، اقتصرت التحركات العسكرية على لبنان والعراق واليمن، وبشكل تدريجي ودون الزخم الكافي لإجبار إسرائيل على الرضوخ لشروط حماس.
إضافة إلى ذلك، جاء تدخل إيران خجولاً، حيث اقتصر على عمليتين فقط دون دعم مكثف أو متواصل. لم تتحقق إذًا تطلعات محمد الضيف الذي أعرب في السابع من أكتوبر عن أمله في أن تتحرك كافة الأطراف لدعم المقاومة الفلسطينية وفرض واقع جديد على الأرض.
حرب بلا أهداف محققة
شهدت المطالب بين حماس وإسرائيل تغييرات كبيرة منذ بداية الحرب. بدأت حماس بمواقف تعبر عن رفض مطلق للسياسات الإسرائيلية، لكنها قدمت تنازلات تدريجية تتعلق بآليات إعادة الإعمار وتبادل الأسرى. من جهة أخرى، انتقلت إسرائيل من السعي لتحقيق أهداف عسكرية بحتة إلى القبول بمفاوضات تشمل تخفيف القيود على غزة.
ومع انتهاء الحرب، لم يحقق أي من الطرفين الأهداف المعلنة بشكل كامل. فإسرائيل، التي بدأت الحرب بهدف القضاء النهائي على حماس، تفاوضت ووقعت اتفاق مع الحركة، كذلك بقي مقاتلو حماس حتى الساعات الأخيرة ينشطون وينصبون الكمائن في شمال القطاع المحاصر. وعلى الرغم من تدمير بنى تحتية واسعة، استعادت الحركة نسبيا بناء جزء من هيكلها العسكري والسياسي.
إسرائيل، التي بدأت الحرب بتصريحات حاسمة عن “القضاء التام على حماس”، وجدت نفسها مضطرة إلى تعديل روايتها مع مرور الوقت. فعلى الرغم من الدمار الواسع الذي ألحقته بالبنية التحتية في قطاع غزة وعدد الشهداء المرتفع، فإنها لم تحقق الأهداف التي أعلنتها عند بداية الحرب.
فاستعادة الأسرى الإسرائيليين، التي اعتُبرت إحدى أهم أولوياتها، لم تتم إلا عبر مفاوضات سياسية شاقة، أظهرت محدودية الحلول العسكرية في تحقيق أهدافها. كما أن تصريحات رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو بعد وقف إطلاق النار، التي أكد فيها استمرار العمل على “القضاء على حماس ومنع سيطرتها على غزة”، تعكس اعترافًا ضمنيًا بأن العملية العسكرية لم تنجح في تحقيق هذا الهدف الاستراتيجي.
إضافةً إلى ذلك، لم تتمكن إسرائيل من القضاء على حماس كتنظيم مسلح، إذ ما زالت الحركة تحتفظ بقدرتها على إدارة عمليات عسكرية محدودة، وهو ما يظهر في استمرارها في تنفيذ الكمائن وإدارة الاشتباكات في شمال القطاع حتى آخر ساعات الحرب.
في المقابل، سعت حماس منذ السابع من أكتوبر إلى تقديم عملية “طوفان الأقصى” كنصر غير مسبوق للمقاومة الفلسطينية، مستندة إلى عنصر المفاجأة في الهجوم والقدرة على الصمود أمام آلة الحرب الإسرائيلية.
إلا أن هذا السرد لم يصمد أمام الواقع الميداني. فعلى الرغم من صمود مقاتلي حماس، تعرض قطاع غزة لتدمير غير مسبوق طال البنية التحتية بالكامل تقريبًا، مع استشهاد عشرات الآلاف من المدنيين، وتشريد مئات الآلاف. كما أن الحركة لم تتمكن من إخراج القوات الإسرائيلية من جميع مناطق القطاع، إذ ما زالت بعض المناطق تحت السيطرة الإسرائيلية، ما يشير إلى فشل الحركة في تحقيق المطلب التفاوضي القاضي بانسحاب إسرائيل الكامل من غزة.
علاوة على ذلك، لم تنجح حماس في تحقيق ما يُعرف بـ”تبييض السجون”، حيث بقي عدد كبير من الأسرى الفلسطينيين في السجون الإسرائيلية، بل إن أعدادهم ارتفعت خلال الحرب، كمان أن أغلب الأسرى المحكومين بالمؤبدات سيتم إبعادهم عن مسقط رأسهم. تصريحات وزير الخارجية القطري، التي أشار فيها إلى غموض تفاصيل الاتفاق بين الطرفين، تعزز هذه الصورة المتناقضة لرواية حماس عن النصر.
إذا تعمقنا في تفاصيل الاتفاق المتعلق بالمرحلة الأولى بعد وقف إطلاق النار، نجد الكثير من النقاط المبهمة التي تطرح تساؤلات حول المكاسب التي حققها كل طرف.
وجود منطقة عازلة في غزة، الذي يعد واحدًا من بنود الاتفاق، يمثل تناقضًا واضحًا مع مطالب حماس التفاوضية الأساسية التي لطالما أكدت رفضها لأي تواجد إسرائيلي أو ترتيبات أمنية في القطاع. كذلك، لم تحصد حماس ضمانة بنهاية الحرب في نهاية مراحل الاتفاق وهو الشرط الذي تمترست عليه بعد أن كانت ترفض حصول أي اتفاق بدون إعلان واضح منذ البداية بإنهاء الحرب. ولم يقر الوسطاء بشكل صريح بنهاية الحرب مع انتهاء تلك المرحلة وإنما تُرك الأمر معلقا بالتفاوض حول تلك المراحل التي ستوصل لنهاية الحرب، على حد وصف الوسيط القطري.
في المقابل، إعلان وقف إطلاق نار دون القضاء التام على المقاومة الفلسطينية يُعتبر إخفاقًا لإسرائيل في فرض شروطها بشكل كامل. استمرار وجود حماس كتنظيم فاعل، رغم كل ما تعرض له القطاع من دمار، يضعف مزاعم إسرائيل بتحقيق أهدافها المعلنة.
الدمار الشامل الذي أصاب قطاع غزة، واستمرار الاحتلال الإسرائيلي في بعض المناطق، والغموض الذي يكتنف بنود الاتفاقيات، إضافة لبقاء حماس كقوة مقاومة وحكومية في القطاع، يُظهر انتهاء هذه المرحلة دون تحقيق إسرائيل لما كررته بالنصر المطلق.
هذا الواقع يبرز تناقضات الصراع، حيث أن دفع الأثمان الباهظة أو تحقيق الإنجازات الميدانية لا يعني أن الأهداف أصبحت في متناول اليد، لا سيما في ظل حرب يحمل أحد أطرافها أعلى مستويات الإرادة القتالية.