أشهر الطوفان العاصفة… هكذا تغيّرت معادلات المنطقة
على مدى سنة وثلاثة أشهر، عرفت منطقة الشرق الأوسط تدحرُجًا نحو نار التهمت دولًا وحاصرت بحارًا. كانت بدايتها عندما أطلقت حركة حماس في قطاع غزة أكبر هجوم في تاريخها ضد إسرائيل تحت عنوان "طوفان الأقصى"، وشمل خطْفَ عسكريين ومستوطنين إسرائيليين، إطلاق آلاف القذائف الصاروخيّة والانتشار على مساحة جغرافية واسعة داخل مستوطنات غلاف القطاع.
هي حرب متعددة الهجمات تحسّب لها المعنيّون بها سنوات طويلة، ورصدوا لها أموالًا وجواسيس وتكنولوجيا ومناورات، بين من أراد فرض وحدة الساحات من جهة، ومن عمل على اتفاقات تطبيع تُغيّرُ من شكل التوازنات الإقليمية وثقلها من جهة أخرى، وفي الحالتين كان جليّا أنّ التاريخ سيطوي صفحة ويفتح أخرى.
هزّ الهجوم الضخم إسرائيل بعمق، وأعاد طرح أسئلتها الوجودية بقوة في الشرق الأوسط، وإن كان ربما من الأفضل انتقالها إلى منطقة أخرى من المناطق التي كانت مقترحة لها قبل إنشائها عام 1948، إلا أنّ الضريبة الناجمة عن الرد الإسرائيلي كانت عالية على المدنيين الفلسطينيين في غزة، الذين قتلت آلة الحرب الإسرائيلية أكثر من 40 ألفًا منهم وهجرتهم بشكل كامل تقريبًا، وإن كان هذا التهجير بقي بنسبة كبيرة داخل غزة، مع مساحة دمار شملت الجزء الأكبر منه، وهو ما كشفته بوضوح مستويات الرؤية المختلفة من الأرض إلى الجو فالأقمار الصناعية.
ورغم الحملة الجوية الشعواء التي قضت على 500 ضحية من المدنيين الفلسطينيين في غاراتها الأولى، تريّثت إسرائيل قبل الدخول البرّي، خاصة عندما خرجت تصريحات إيرانية توحي بإمكانية توسيع الجبهات في المنطقة إذا اجتاح الجيش الإسرائيلي شوارع غزة وأمعن بقتل أهل القطاع. الجبهات هذه كانت قد توسّعت فعلًا على الحدود مع لبنان عبر القصف المتبادل بعد ساعات فقط من الإعلان عن “طوفان الأقصى”.
هكذا دخل حزب الله الحرب ثم لحقت به جماعات عراقية وبعدها اليمن، وبات ما عُرف بـ”محور المقاومة” في عمق المواجهة مع إسرائيل، حيث راحت الصواريخ والمسيّرات تُصوَّبُ باتجاه المرافئ والمدن والقواعد العسكرية الإسرائيلية ليصل منها ما يصل، وتتصدى منظومات الدفاع الجوي والقبة الحديدية للباقي.
هكذا أيضًا أرادت هذه الجبهة الممتدة على أكثر من ساحة فرض نهج جديد على إسرائيل، بأنّ مواجهتها لطرف واحد من المحور سيعني أنّ عليها تلقي ضربات من الجميع، وبالتالي رفع فاتورة أي محاولة للتوسّع أو لتغيير معادلات.
وبعد تريّث وتهديدات متبادلة في السرّ والعلن، اجتاح الجيش الإسرائيلي غزة ووصل إلى مدينة رفح جنوبًا، لكن سريعًا ما اتضح ما ينتظره من أثمانٍ وخسائر تكبّدها إثر مقاومة شرسة من كتائب القسّام وسرايا القدس التابعتين لحركتَيْ حماس والجهاد الإسلامي، وقد وثّقت الحركتان عمليّاتهما بفيديوهات تُظهر وضع العبوات على المدرّعات من مسافة صفر، كما أثبتتا سرعة كبيرة بإعادة ترميم ملموسة في كل مكان ينسحب منه الجيش الإسرائيلي معلنًا إنجاز مهمته فيه، مما ينفي اكتمال المهمة الإسرائيلية.
وسريعًا ما أبدى قادة غربيّون تضامنهم مع إسرائيل، وكان على رأس حملة الدعم السياسية العالمية هذه الرئيس الأميركي جو بايدن، الذي حضر إلى القدس واجتمع مع الكابينت الإسرائيلي ليؤكد استعداده للدفاع عن إسرائيل وعما اعتبره حقها في الدفاع عن نفسها.
اختار بايدن كلماته بعناية، فوصف ما جرى في السابع من تشرين الأول/ أكتوبر بأنه يساوي عشرة أضعاف ما حصل في 11 أيلول/ سبتمبر 2001، كما تبنّى الرواية الإسرائيلية بشأن المجزرة المروّعة التي وقعت في مستشفى المعمداني والتي راح ضحيتها مئات المدنيين الفلسطينيين، وذلك في مؤتمر صحفي عقده مع نتنياهو، لكنّ البيت الأبيض عاد ليُعرض عن تأكيد الرواية الإسرائيلية في تصريحات لاحقة.
وكانت إسرائيل قد اتهمت الفصائل الفلسطينية بارتكاب هذه المجزرة عبر صاروخ أرض – أرض سقط عن طريق الخطأ على المستشفى، بينما أكدت الجهات الحكومية الفلسطينية في غزة أنَ المستشفى جرى استهدافه من الجيش الإسرائيلي بعد تهديد بوجوب إخلائه من المرضى والفريق الطبي.
أما الموقف العربي فقد سيطر عليه التضامن البارد مع غزة، وكلام سعودي عن عدم إمكانية تطبيع العلاقات مع إسرائيل قبل توقّف الحرب، بينما أطلقت الإمارات طريق إمداد برّي لصالح إسرائيل يغذّيها بالبضائع بل ويخفّض من كلفتها، ليمرّ بالأراضي السعودية والأردنية وصولًا إلى ميناء حيفا.
وفي محاولة منها إجبار حماس على قبول وقف إطلاق النار بالشروط الإسرائيلية، خنقت تل أبيب بقدر استطاعتها وصول المساعدات الإنسانية إلى غزة، حتى أنّ المساعي الأميركية التي بدت جدية في مرحلة ما لم تفلح في نهاية المطاف بتغيير الواقع الإنساني في القطاع، حيث كانت الطائرات الأميركية تُسقط المساعدات بصناديق كبيرة فوق المناطق المدنية، لكنّ ذلك توقف ليتم استبداله بميناء عائم، ميناء تطلّب إنشاؤه مدة ليست قصيرة قبل أن يتوقف العمل عليه من دون نتيجة تُذكر.
نجح الوسطاء بعد أسابيع من انطلاق الحرب بتنظيم صفقة تبادل جزئية جرت في ظلّ وقف لإطلاق النار بين إسرائيل و”حماس”، لكن ما لبثت الحرب أن عادت بين الطرفين، حيث رفضت الحركة استكمال تبادل الأسرى من دون الاتفاق على وقف الحرب، بينما رفض رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتيناهو ووزراؤه المتطرّفون وقف الحرب بأي ثمن، حيث كانوا يتعهّدون في تصريحاتهم بتدمير حماس وتغيير الوضع في غزة بحيث لا يمكن إعادة شنّ هجوم كبير منه على إسرائيل كالذي وقع.
ربطت الأطراف التي انخرطت إسنادًا لغزة وقف هجماتها على إسرائيل بوقف الحرب، وبالشروط التي ترضاها حماس، فتدحرجت الأمور إلى اغتيالات لشخصيات فلسطينية في لبنان وإيران، كنائب رئيس المكتب السياسي لحماس في لبنان صالح العاروري الذي جرى اغتياله مع مساعديه في ضاحية بيروت الجنوبية، ورئيس المكتب السياسي إسماعيل هنية في مقرّ استضافة للشخصيّات في طهران.
الاغتيال الأخير كان أحد المسبّبات لجولة من الرد والرد المقابل بين إيران وإسرائيل، حيث استهدفت إيران قواعد عسكرية إسرائيلية. اعترفت تل أبيب بإصابة قاعدتين في الرد الإيراني الأول الذي جاء عقب قصف القنصلية الإيرانية في سوريا وقتل عدد من قادة الحرس الثوري، كما ردت إسرائيل باستهداف منشآت عسكرية إيرانية طالت حسب إعلان تل أبيب منظومات دفاع جوي و منشأت لها علاقة بتصنيع الصواريخ والبرنامج النووي الإيراني، وذلك بعد ضغط أميركي تحدث عنه الإعلام الغربي لمنع قصف منشآت نووية أو مراكز نفطية أو بنى تحتية في إيران.
كلّ هذه التطوّرات واكبتها محاولات حثيثة خاضتها كل من قطر، مصر والإدارة الأميركية لحمل الطرفين الفلسطيني والإسرائيلي على وقف الحرب وتبادل الأسرى، فأعلنت حماس موافقتها على خطة قدّمها الرئيس الأميركي جو بايدن في أيار/ مايو 2024، لكنّ إسرائيل ردت على هذه الموافقة بالتوغل في رفح واحتلال شريط فيلادلفيا الحدودي مع مصر، كما رفضت التعهّد بوقف الحرب و أصرّت على البقاء عسكريًا في محور نتساريم الفاصل بين شمال وجنوب القطاع، وهما الأمران التي لم تقدم خطة بايدن حولهما تصوّرًا واضحًا. التعنّت الإسرائيلي وتوجه نتنياهو لما أسماه الضغط العسكري على حماس بالدخول إلى رفح قاد إلى عثرة أخرى على طريق التفاوض تتعلّق بالانسحاب من محور فيلادلفيا.
وسط هذه الأجواء، رزح نتنياهو تحت ضغوط سياسية هائلة من جهات عدة، لكنه أفلح في النجاة من مخالبها ومتابعة الحرب بغض النظر عن أهمية الأهداف المنتظرة. زعيم المعارضة الإسرائيلية يائير لابيد، عائلات الأسرى، الوزير في مجلس الحرب بيني غانتس، المظاهرات الاحتجاجية التي ملأت شوارع تل أبيب مرارًا مطالبةً بإنهاء الحرب وعقد صفقة تبادل أسرى، اتهام قضائي بتلقي الرشاوى وملفّات أخرى، كل ذلك جعل حكومة اليمين المتطرّف في مهبّ الريح عند منعطفات عدة.
حاول نتنياهو البحث عن حل ولو جزئي لمسألة الأسرى، ولو كانت الفائدة من مساعيه هي فقط تخفيف الضغط الشعبي بهذا الشأن. شنّ الجيش الإسرائيلي عمليّات أمنية عدّة علّه يعثر على أسرى أحياء أو على جثث أسرى، فنجح تارةً وفشل تارةً أخرى، حيث أدت بعض الاقتحامات إلى مقتل الأسرى الأسرى الإسرائيليين أنفسهم، لكنه في المحصلة لم يغيّر الكثير من حسابات التفاوض في هذا الشأن، حيث بقي بيد حماس عشرات الأسرى الأحياء والأموات.
ثم كان التوسّع الأكبر في الحرب من نصيب لبنان، حيث سقطت قواعد الاشتباك التي استمرّت لأكثر من سنة، فاغتالت إسرائيل عددًا كبيرًا من قياديي حزب الله خلال أسابيع، أبرزهم الأمين العام للحزب السيد حسن نصر الله الذي جرى استهدافه بغارة عنيفة في ضاحية بيروت الجنوبية، ورئيس المجلس التنفيذي في الحزب السيد هاشم صفي الدين الذي تم اغتياله بعد نصرالله بنحو أسبوع.
قبل ذلك التوسّع، مهّدت إسرائيل بضربتين أرادت من خلالهما أن تُجبر الحزب على التخلّي عن ربط الأمور بغزة من دون أن تنجح، ففجّرت أجهزة نداء (البيجر) وأجهزة لا سلكية بآلاف من عناصره، في عملية معقدة تطلّب التحضير لها سنوات من العمل الاستخباري، واغتالت المسؤول العسكري الأكبر في الحزب فؤاد شكر.
بالمقابل، وسّع حزب الله قصف المستوطنات، فضرب حيفا وتل أبيب، وضرب المستوطنات الحدودية بشكل لم تعهده إسرائيل من قبل، فهجّر منها عشرات آلاف المستوطنين، كما استطاع الحزب أن يُلحِقَ خسائر في القوات الإسرائيلية التي توغّلت جنوب لبنان، مانعًا إياها من اجتياز ما يتعدى بضعة كيلومترات في قرى حدودية. في المقابل، كانت إسرائيل بين الفينة والأخرى تعرض مشاهد لتفكيك وتفجير منشئات عسكرية لحزب الله في القرى الجنوبية، فضلًا عن نقل ذخائر من تلك المنشئات.
بعد 66 يومًا من العمليات المكثّفة، توصل لبنان وإسرائيل إلى اتفاق يقضي بوقف القصف المتبادل بوساطة أميركية حثيثة. يقضي الاتفاق بانسحاب الجيش الإسرائيلي من القرى اللبنانية التي دخلها خلال مهلة 60 يومًا، على أن ينتشر الجيش اللبناني جنوب نهر الليطاني ويتولّى فرض الأمن هناك، على أساس القرار 1701 الصادر عن مجلس الأمن عام 2006، وبإشراف لجنة عسكرية دولية تتولّى معالجة الخروقات.
خلال هذه الحرب، اغتالت إسرائيل رئيس حركة حماس في غزة يحيى السنوار – الرجل الذي يراه العالم مخطّطًا أوّل لطوفان الأقصى – بعد محاصرته في أحد البيوت في مشهد بدا سينمائيًا، عندما ظهر السنوار وهو يرمى عصاه على مسيّرة دخلت إلى مكان تواجده وهو خائر القوى، مما حوّل الرجل إلى رمز كبير يصرّ على القتال حتى النفس الأخير.
بدا السنوار يتحيّن لحظة مباغتة إسرائيل منذ تصدّيه للمناصب العليا في حماس، وهو الأسير السابق الذي عانى الأمرّين في السجون الإسرائيلية، وكثيرًا ما بدا في تصريحاته غير مكترث بمصيره الشخصي في دوّامة الصراع الكبير.
وقبل السنوار، كانت إسرائيل قد تحدثت عن اغتيال قياديين في كتائب القسّام هما مروان عيسى ومحمد الضيف، لكنّ حركة حماس لم تؤكد اغتيالهما أبدًا كما فعلت مع السنوار، وتركت تأكيد هذا الأمر للذراع العسكري للحركة.
وما إن استقرّت الأمور بين لبنان وإسرائيل، حتى تغيّر المشهد في سوريا، فسقط نظام آل الأسد الذي حكم البلاد 54 عامًا، وقُطعت حلقة وصل أساسية في محور المقاومة كانت تربط طهران ببيروت، وهو ما لاحظه صراحةً الأمين العام الجديد لحزب الله الشيخ نعيم قاسم الذي اعترف في أحد خطاباته بقطع طريق الإمداد عن الحزب.
لم يكن من الصعب الربط بين حرب غزة وما حصل في سوريا، حيث لوحظ سريعًا عدم تدخل إيران وحزب الله بشكل فعّال لإنقاذ النظام كما جرى بين عامي 2011 و2017. فغارات إسرائيل المتتالية على سوريا وتهديدها باستهداف أي تحرك إيراني في أجوائها أو برًها، وحالة حزب الله الذي لم يكد يخرج من حربه الطاحنة بعد، كانا سببين رئيسيين في رسم المشهد السوري الجديد الذي فاجأ العالم خلال أيام قليلة.
استغلّت إسرائيل ظروف هذا المشهد لتدمّر الجزء الأكبر من ترسانة الجيش السوري في حملة جوية لم يسجّلها تاريخ الطرفين، وتقدمت برّيًا لتقيم منطقة عازلة أمام منطقة الجولان المحتلّة والقنيطرة، فوقف الجنود الإسرائيليون في مناطق سوريّة لم يشهد التاريخ أن كان لإسرائيل فيها أي وجود.
تغيّرات المشهد الإقليمي المترافقة مع الوقائع الميدانية في القطاع، والضغوط الداخلية التي كانت في إسرائيل أكثر وضوحًا، عوامل أسهمت في إعادة الطرفين بجدية أكبر إلى طاولة المفاوضات. أما العامل الذي يبدو أنه لعب دورًا حاسما في المشهد التفاوضي فهو الموقف الأميركي الذي بدا أكثر إلحاحًا هذه المرة في التوصل للاتفاق، والذي عبّر عنه الرئيس المنتخب دوناد ترامب بالتهديد بجحيم في الشرق الأوسط إذا لم يطلق سراح الإسرائيليين الذين تحتفظ فيهم حركة حماس والفصائل الأخرى في غزة.
هو التهديد الذي لا يبدو حسب ما يرشح من وسائل الإعلام الإسرائيلية أنه استهدف فقط الطرف الفلسطيني، بل طال رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، الذي كانت المؤشرات من حوله تنتظر حرية إسرائيلية أكبر في ظل إدارة أميركية يرأسها ترامب.