الجادّة: طريقٌ في اتجاهين
قراءة طويلة10 ديسمبر 2024 15:57
للمشاركة:

فورين بوليسي: هل يستطيع حاكم دمشق الجديد إحكام السيطرة على سوريا؟

يرى أستاذ العلاقات الدولية الإيراني آرش رئيسي نجاد أن الحكم الجديد في سوريا سيدرك قريبًا أنه لن يتمكن أبدًا من السيطرة على جغرافيا البلاد، مرجعًا العديد من الصراعات إلى طبيعة هذه الجغرافيا والتنوّع الديني والعرقي فيها.

وفي مقال له في مجلّة “فورين بوليسي” التابعة لوزارة الخارجية الأميركية، يؤكد الكاتب أنّ سوريا لا توفّر لها جغرافيتها أي قدرة على ردع الغزوات، ولا معاقل داخلية صلبة لإنشاء خطوط دفاع. مشيرًا إلى أن من يسيطر على ممر حمص – حماة سيخرج باعتباره المنتصر الحاسم في سوريا. وذكّر في هذا الإطار بأن المرحلة الأولى من الحرب الأهلية التي انتهت بانتصار الأسد وحلفائه الروس والإيرانيين جاءت بعدما تمكّنوا من السيطرة على هذا الممر.

في ما يلي ترجمة “الجادة” الكاملة للمقال

الآن بعد أن برزت هيئة تحرير الشام باعتبارها المنتصرة في الحرب الأهلية السورية، من المغري أن نتخيّل عودة البلاد إلى بعض مظاهر الاستقرار.

الحقيقة أنه لا يوجد استقرار ليعود. بقدر ما كانت الحرب الأهلية طائفية وأيديولوجية، كان أيضًا دائمًا حربًا تم إنشاؤها وتغذيتها عبر الجغرافيا الأساسية للبلاد.

نهاية هذا الفصل من الحرب من المحتمل أن يعني بداية الفصل التالي من الصراع. لقد عاقبت الجغرافيا سوريا دائمًا. البلاد تفتقر

حواجز طبيعية كبيرة، سواء داخل أراضيها أو على طول الحدود.

وفي الغرب، يقع البحر الأبيض المتوسط، وهو طريق للتجارة، وبالتالي للغزوات العسكرية. وإلى الشرق يقع نهر الفرات، كما تحد سوريا من الجنوب الصحراء، ومن الشمال السهول الواقعة عند السفوح الجنوبية لجبال طوروس.

في جوهر الأمر، لا توفر جغرافية سوريا أي دفاعات خارجية لها لردع الغزوات، ولا معاقل داخلية كخط دفاع أخير.

معظم حدود سوريا الحديثة مصطنعة وليست طبيعية. الحد الجنوبي خط مستقيم، والحد الشرقي كذلك يأتي بشكل قهري. وقد أدى ذلك إلى حدود هشة، وإلى افتقار سوريا التاريخي إلى الاستقلال والضعف في الهوية الوطنية.

قسّمت جغرافيا البلاد المجزّأة المنطقة إلى ستة أجزاء منفصلة: واحة في الجنوب الغربي، بوابة في الشمال، شريط ساحلي في الغرب، هضبة وعرة في الجنوب، ممر بين الشمال والجنوب وأرض مسطحة قاحلة في الشرق.

خلف جبال لبنان توجد واحة تحدها الجبال من جهة والصحراء من جهة أخرى. تقع دمشق في وسطها، وهي تشبه إلى حد كبير قلعة صغيرة. على الرغم من أنّ دمشق تقع في قلب بلاد الشام، إلا أنّ طرق الوصول إلى بقية أنحاء البلاد قليلة ونادرة. لذلك، ليس من المستغرب أن يحتاج حاكم دمشق إلى حكومة عسكرية ذات قبضة حديدية لحكم هذه الأمة المجزّأة بأكملها.

وفي الشمال تقع حلب، وهي بوابة تجارية طبيعية بين آسيا الصغرى شمالًا وبلاد ما بين النهرين شرقًا، وتتصل ببلاد الشام. لقد كان حكّام آسيا الصغرى – الرومان، ثم العثمانيون، والآن تركيا الحديثة – يتطلّعون دائمًا إلى هذا المركز التجاري المكتظ بالسكان.

إنّ ضعف حلب أمام قوى آسيا الصغرى، إلى جانب ثقتها المستمدّة من موقعها التجاري الاستراتيجي، جعلاها باستمرار المنافس الأكثر أهمية لدمشق في سوريا. ولذلك، فإنّ السيطرة على هذا المركز الاقتصادي هي الخطوة الأكثر أهمية بالنسبة لحاكم دمشق.

إلى الغرب، تطل سلسلة جبلية ضيّقة ومنخفضة على البحر الأبيض المتوسط، وتشكل شريطًا ساحليًا طويلًا ولكن رفيعًا كان تاريخيًا ملجأً للأقلّيات الدينية، مثل العلويين والمسيحيين. وقد واجهت هذه الأقلّيّات باستمرار ضغوطًا من الحكام السُنّة المتمركزين في أماكن أبعد، سواءً عند مصب نهر النيل أو على طول شواطئ بحر مرمرة. وتقع اللاذقية وطرطوس هناك، مما يوفر وصولًا حاسمًا إلى العالم الخارجي. وليس من المستغرب أن يتم تشكيل تحالفات مع قوى أجنبية بعيدة – فرنسا أوّلًا والآن روسيا – عبر هذا الخط الساحلي. إنّ السيطرة على هذه المنطقة الساحلية أمر ضروري للحفاظ على العلاقات مع الحلفاء الخارجيين، الذين يشكلون معًا أساس قوة حاكم دمشق في هذه الأرض الحدودية.

ويوجد بين هاتين المنطقتين ممر موازٍ لنهر العاصي، يربط واحة دمشق ببوّابة حلب التجارية. وتقع مدينتا حمص وحماة على طول هذا الممر. فمن ناحية، لا يمكن الحفاظ على السيطرة على حلب إلا من خلال هذا الممر؛ ومن ناحية أخرى، غالبًا ما ينطوي التمرّد ضد دمشق على تعطيل أمن هذا الممر. وبعبارة أخرى، فإنّ طريق دمشق – حلب يخدم في الوقت نفسه كممر سيطرة وممر للثورة. وليس من قبيل الصدفة أن يُعرف نهر العاصي أيضًا باسم “النهر الثائر”.

وإلى الشرق يوجد وادي نهر الفرات ومساحة واسعة من الأراضي المسطحة ولكن القاحلة، والتي تشكّل جزءاً من منطقة الجزيرة.

تمتد الجزيرة شمال العراق وجنوب شرق تركيا وشمال شرق سوريا، وتضم ثلاث مدن رئيسية: الموصل وآمد (ديار بكر الآن) والرقة. كانت هذه المناطق تاريخيًا موطنًا لثلاث قبائل ناطقة بالعربية: ربيعة وبكر ومضر. وعلى عكس ديار بكر، فإنّ المنطقتين الأخريين يتحدثان بأغلبية عربية ويشكلان معاقل للقبائل البدوية ذات الحركة العالية. فالأرض موحّدة، ويتقاسم الناس خصائص دينية ولغوية متشابهة، وتمتد هذه الأرض من الموصل إلى الرقة. على مرّ التاريخ، كانت هاتان المنطقتان مرتبطتين ارتباطًا وثيقًا، لدرجة أنّ حاكم الموصل، وليس حاكم دمشق، هو الذي يحكم الرقة في كثير من الأحيان – والعكس صحيح. وهكذا وضعت الجغرافيا الأساس لاحتمال ظهور مملكة مستقلّة تمتد من نهر دجلة إلى نهر الفرات في شمال بلاد ما بين النهرين.

وتشكل التضاريس الوعرة لجبل الدروز وهضبة حوران في الجنوب، بالقرب من الحدود الأردنية، منطقة أخرى من البلاد. وقد وفّرت هذه المنطقة ملاذًا آمنًا للطوائف المضطهدة، مثل الدروز. على عكس معظم أنحاء البلاد، التي تسكنها أغلبية مسلمة سنية، تتميّز الجبال الجنوبية وخاصة الشريط الساحلي بتنوّع الأقلّيّات الدينية والطائفية، لكنّ هذا التنوّع لم ينتج الوحدة. وليس من المستغرب أنّ هذه الأقليات، غير القادرة على تشكيل تحالفات مستقرّة ضد الأغلبية السنية، غالبًا ما تتطلّع إلى القوى البحرية في الأراضي البعيدة لتحقيق التوازن مع الهيمنة السنية الداخلية.

وهكذا، أدّت الجغرافيا إلى تجزئة سوريا: فدمشق، العاصمة المحاصرة، لديها قدرة محدودة على الوصول إلى المناطق الأخرى؛ وكانت حلب تحت تأثير القسطنطينية – إسطنبول؛ ويربط الممر غير الآمن بين حمص وحماة وإدلب المركز السياسي بالبوابة التجارية. وكانت الموصل دائمًا تحت سيطرة قوة موحدة. ويعتبر الشريط الساحلي الضيق للبحر الأبيض المتوسط وجبل الدروز منطقتين منفصلتين تمامًا. ولم يكن لدمشق، عاصمة البلاد، أي سيطرة على حلب والرقة قبل إنشاء سوريا الحديثة.

إنّ أحد أهم جذور غياب سلطة وطنية قوية يكمن في جغرافية هذا البلد المجزّأة. وفي غياب السيادة الوطنية، ظلّت الهوية الوطنية للبلاد ضعيفة أيضًا. ونتيجة لذلك، أصبحت سوريا هدفًا لهجمات ومؤامرات القوى الإقليمية والدولية الأخرى. الأهم من ذلك أنّ البدائل القابلة للتطبيق والتي يمكن الوصول إليها يمكن أن تعرقل سلامة أراضيها. ولهذا السبب، لجأت الحكومات إلى القمع بقبضة حديدية لمنع الانهيار الداخلي المحتمل.

وقد ساهمت الحملات العسكرية والتبادلات التجارية والتفاعلات الدينية في التفتت التاريخي وعدم الاستقرار في سوريا، وهي أرض يسكنها أشخاص من أعراق ولغات وديانات متنوّعة.

وفي خضم التوترات الداخلية المستمرة بين هذه المجموعات السكانية غير المتجانسة في أرض يعود تاريخها إلى آلاف السنين، أثبت إنشاء حكومة وطنية موحّدة ومستقلّة أنه أمر بالغ الصعوبة. وليس من المستغرب أن تقع سوريا بالكامل تحت سيطرة الامبراطوريات الكبرى (الآشوريون، الفرس الأخمينيون، العرب والعثمانيون). وفي أوقات أخرى، أصبحت الحدود المتنازع عليها بين قوتين رئيسيتين (روما وبارثيا، بيزنطة والساسانيين، الإلخانات والمماليك). باختصار، تمثل سوريا “منطقة حدودية” في غرب آسيا.

ومع ذلك، واجهت سوريا المستقلّة تحديات عديدة: الافتقار إلى هوية وطنية قوية وهشاشة حكومتها. لم تؤدِّ هزيمتها في الحرب العربية الإسرائيلية عام 1948 إلى زيادة زعزعة استقرار الجمهورية السورية الوليدة فحسب، بل أدّت أيضًا إلى تضخيم أيديولوجية الوحدة العربية إلى حد أنّ سوريا، إلى جانب مصر واليمن الشمالي لاحقًا كدول عربية موحّدة، أنشأت الجمهورية العربية المتحدة، بقيادة الرئيس المصري جمال عبد الناصر.

إنّ انهيار الجمهورية العربية المتحدة، وحتى الهزيمة الكارثية في حرب الأيام الستة عام 1967، لم يقلّل من قوة هذه الأيديولوجية. مع انقلاب حافظ الأسد وصعود الحكم البعثي في عام 1970، حقّقت سوريا استقرارًا سياسيًا واضحًا، ولكن من خلال نظام بقبضة حديدية.

باختصار، السنوات الأولى من الاستقلال، التي اتسمت بحكومات قصيرة الأجل وغياب نظام سياسي مستقر، حوّلت سوريا إلى أرض خصبة للإيديولوجيات المتطرّفة مثل الوحدة العربية والأصولية الإسلامية في وقت لاحق. ومع ذلك، بدا أنّ النظام البعثي قد نجح في حل مشكلة الهشاشة السياسية.

ومع ذلك، وصلت موجات الربيع العربي إلى أبواب سوريا، مما أدى إلى اندلاع حرب أهلية أشعلتها الميليشيات السلفية الأجنبية، وتفاقمت بسبب العنف الشديد من جانب القوات السورية. وأدت هذه الحرب إلى نزوح جماعي وتدمير البنية التحتية للبلاد. مرة أخرى، لعبت الجغرافيا دورًا حاسمًا في الحرب الأهلية المدمّرة في سوريا. وسيطر تنظيم الدولة الإسلامية على الرقة وعلى الموصل.

حافظت دمشق على سيطرتها على ساحل البحر الأبيض المتوسط، وضمنت الدعم من حليفتها البعيدة روسيا، في حين سيطرت قوات المعارضة، المدعومة من تركيا، على حلب. وتركزت غالبية المعارك على الممر الذي يربط دمشق عبر حمص وحماة وبوابة حلب التجارية. انتهت المرحلة الأولى من الحرب الأهلية بانتصار الأسد وحلفائه الروس والإيرانيين، حيث تمكّنوا من السيطرة على الممر.

لقد كان المنطق الجغرافي يُملي دائمًا أنّ من يسيطر على ممر حمص – حماة سيخرج باعتباره المنتصر الحاسم في سوريا. وأصبح سقوط الأسد حتميًا عندما سيطر المتمردون على تلك المنطقة من الأرض. وقد يعتقد هؤلاء المتمردون أنفسهم، الذين سيطروا الآن على دمشق، بأنّ مصير سوريا أصبح الآن في أيديهم. ولكنهم سوف يدركون قريبًا أنهم لن يتمكّنوا أبدًا من السيطرة على جغرافية البلاد.

إن المعلومات والآراء المذكورة في هذه المقالة المترجمة لا تعبّر بالضرورة عن رأي جاده إيران وإنما تعبّر عن رأي كاتبها أو المؤسسة حيث جرى نشرها أولًا

جاده ايران تلغرام
للمشاركة: