الأسلحة النووية.. طريق عودة إيران إلى حروب الظل؟
تحدثنا في مقال سابق عن العقبات التي تواجهها إيران لتثبيت قدرتها على الردع من خلال الوسائل التقليدية، كما أوضحنا أنه نظرًا لافتقارها للمصادر المالية والتكنلوجية، فإنها تخسر في سباق التسلّح التقليدي، لأنّ تصاعد قوة وتأثير الأسلحة التقليدية للحكومات يأتي نتيجة لمعادلة مدخلاتها المال، التكنولوجيا، والقوّة المتخصصة. كذلك، دائمًا ما يكون سباق التسلّح التقليدي نسبيًا ويحقق أمنًا قصير المدى في فترة زمنية محدودة، أي إنه من الممكن الإخلال بميزان الأسلحة بسهولة عبر توقيع عدد من العقود العسكرية.
هنا يكفي إلقاء نظرة سريعة على أسلحة جيران إيران لمعرفة الفجوة بين الطرفين، حيث تمتلك المملكة العربية السعودية أكبر أسطول من مقاتلات F-15 بعد الولايات المتحدة، وعلى مسافة أبعد قليلًا، تُعتبر تركيا، التي تمتلك أكثر من 930 طائرة، ثالث أكبر قوة جوية تابعة لحلف شمال الأطلسي بعد الولايات المتحدة والمملكة المتحدة، كما أنّ باكستان هي قوة نووية، فيما تعمل جمهورية أذربيجان على زيادة قوتها العسكرية بسرعة متزايدة. وفي مثل هذا الوضع، لا تملك إيران صناعات عسكرية متقدّمة لتحديث أسلحتها، كما أنها لا تملك يدًا مفتوحة في استثمار ما تمتلكه من ثروات في مجال الصناعة العسكرية. في هذا السياق، يمكن القول إنّ سبب الاعتماد الكبير على الصواريخ الباليستية في الاستراتيجيات العسكرية الإيرانية هو التكلفة المنخفضة لصناعتها، وعدم وجود تعقيد كبير في تطويرها.
بناءً على ما تقدّم، لا تمتلك إيران فرصة واضحة لتكقيق ردع ضد إسرائيل والولايات المتحدة عن طريق الأسلحة التقليدية، لكن عند الحديث عن الأسلحة النووية فإن الأمر يختلف، فهذه الأخيرة توفّر ردعًا طويل الأمد، بسبب اختلاف طبيعتها وخصائصها.
منذ عام 1945، عندما حدث أول وآخر استخدام للأسلحة النووية، حقّق الردع النووي إنجازًا متميّزًا، وهو تحويل الصراع العسكري من المجال الواقعي والميداني إلى المجال الافتراضي والتخيّلي.
يقول الخبير الاستراتيجي في في المجال النووي لورنس فريدمان إنّ الأبحاث المتعلّقة بالاستراتيجية النووية هي دراسة “عدم استخدام” هذه الأسلحة (Freedman ,1986:735)، لأنّ السلاح النووي نقل الصراع إلى المجال الافتراضي بسبب طبيعته وخصائصة المختلفة عن بقيّة الأسلحة، ونقل الحرب إلى الحالة التدميرية، كما أنه يحاكي هكذا حربًا مدمّرةً بين أي طرفين بشكلٍ افتراضي، وبالتالي يمنع تصاعد التوتر.
وبنفس الافتراض، فإنّ ما أنقذ أوروبا من أن تبتلعها القوّات المدرّعة السوفياتية العملاقة هو الردع النووي للولايات المتحدة، وما منع الاتحاد السوفياتي والولايات المتحدة من الاصطدام في الحرب الباردة هو التوازن النووي، واحتمالية حدوث تدمير متبادل لكلا البلدين.
وغير بعيد عن مثال الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي، فإنّ الحروب بين باكستان والهند تشكّل مثالًا جيدًا في هذه الحالة، حيث خاضت الهند وباكستان أربع معارك دامية كانت نتيجتها انتصار الهنود، لكن هذا كان قبل أن تمتلك باكستان الأسلحة النووية، إذ أن حصولها على هذه الأسلحة أفرز توقف الحرب بين الدولتين، باستثناء عدد قليل من الصراعات المحدودة. وتكمن النقطة الأساسية هنا في حقيقة أنّ الأسلحة النووية، في الأساس لا تعمل كنهاية للتوتر، بل تتحكم به.
حتى الحرب العالمية الثانية، لم تكن الحكومات قادرة على إلحاق أضرار جسيمة بأراضي العدو أو مراكزه الصناعية أو سكّانه إلا إذا هزمت قواته العسكرية أوّلًا، بينما في العصر النووي فإنّ هذه الإمكانية موجودة بالفعل (ازغندي، 2014: 112)، حيث تفرض الأسلحة النووية توازن الرعب، أي أنه بحسب طبيعة هذا السلاح ومستوى الدمار الذي يُحدثه، تحاول الدول التي تمتلكه تجنّب صراع واسع النطاق من خلال السيطرة على التوتر، حيث أنّ الخصائص التي يتمتّع بها السلاح النووي هي التي فصلته عن السلاح التقليدي وجعلت لدى مالكيه رغبة مشتركة بعدم استخدامه، وهو السلاح الذي أحدث ثورة في العلاقات الدولية، لأنه أول سلاح تم ابتكاره ولا يمتلك الإنسان معايير عقلانية لاستخدامه، لأن المنطق الرشيد ينص على تحقيق الهدف المنشود بأقل التكاليف، والأسلحة النووية وفقا لهذا المنطق حتى وإن حققت الهدف فإن ذلك يكون بتكلفة مرتفعة. لذلك فالمسار المتعلق بها مختلف تمامًا.
المعركة بين قوتين نوويتين لا تختلف عن الانتحار الجماعي، وقد أحدث هذا الفهم تغييرًا جوهريًا في المفهوم التقليدي للحرب، فقبل العصر النووي، كانت مهمة الخبراء الاستراتيجيين تركّز على استخدام الحرب لتحقيق أهداف سياسية، لكن مهنتهم الرئيسية في العصر النووي هي اتخاذ التدابير اللازمة لمنع الحرب النووية (Beafre, 1965:140).
اليوم، يتمثّل الهدف الرئيسي للخبراء الاستراتيجيين في منع حدوث كارثة كبيرة، والخطوة الأولى في هذا الطريق هي تشخيص المصالح الحيوية للدولة والطرف أو الأطراف المقابلة بشكل صحيح وواقعي قدر الإمكان. ورغم أنّ تشخيص المصالح الحيوية وتحديدها يُعتبر أمرًا سهلًا نسبيًا، لكن المشكلة هي الاعتراف بالمصالح الحيوية للطرف الآخر وفهم المصالح الخاصة به على أنها مصالح حيوية وغير قابلة للتفاوض. هذا الأمر يتطلّب إقامة علاقة مع الطرف الآخر، وحيث أنّ التواصل السياسي كان دائمًا جزءًا من السياسة الدولية، إلا أنّ العلاقة المطلوبة في العصر النووي تتّسم بمستوى عالٍ وأكثر تعقيدًا، في حين كان يكفي في الماضي مجرّد “الاتصال” بمنظومة مصالح الطرف الآخر. أما في العصر النووي، فإنّ استقرار نظام الردع يتطلّب ذلك النوع من التواصل الذي يتضمّنُ نقل نسبة معيّنةٍ مما يُسمّى “السرية”، حيث تُعتبر المعلومات التي يقدّمها الطرف الأول إلى الطرف الآخر مشروعة، على أن يتم استخدام هذه المعلومات لتصحيح مفاهيمهم الخاطئة عن قدرات الطرف الأول، وهذا هو المكان الذي تولد فيه “الشراكة العدائية”. (Beafre, 1965:270).
إنّ الشراكة العدائية في الاستراتيجية النووية هي عنصر يخلق الحد الأدنى من التبادلات بين المتنافسين النوويين. وتهدف هذه التبادلات الدنيا إلى منع وقوع كارثة ودمار متبادل، وتكون بمثابة عامل للتحكم في التوتر. وكما هو معروف، فإنّ الحرب بين إيران وإسرائيل هي صراع طويل الأمد يحمل لون “صراع الحضارات”. وانطلاقًا من هذا المفهوم ليس من المنطقي التفاءل بنهاية قريبة للصراع، لكنّ السلاح النووي، في ضوء تفسير إحداثياته، لديه القدرة على تثبيت الردع الإيراني ووقف الانحدار المتزايد نحو توتر.
ليس خفيا على أحد أنه قبل السابع من تشرين الأول/ أكتوبر 2023، كان لإيران وإسرائيل تاريخ طويل من صراع سري، محدود، ومطاردة بعضهما البعض في الظل. وللمثال على ذلك، يمكن ذكر الصراع البحري بين القوات البحرية للحرس الثوري الإيراني والقوات البحرية الإسرائيلية، والذي أدى إلى تضرر 14 سفينة إيرانية و12 سفينة إسرائيلية.
يمتلك الردع النووي القدرة على إعادة الصراع بين إيران وإسرائيل مرة أخرى إلى “حروب الظل”، وهذه الحروب يمكنها إتاحة فرصة استراتيجية لإيران لإعادة تنشيط محور المقاومة، وفي الوقت نفسه إعطائها الوقت الكافي لتطوير أسلحتها التقليدية (راجع المقال السابق). وإضافة إلى ذلك، فهي استراتيجية مناسبة في عصر الفجوة في الإمكانيات مقارنة مع العدو، أي استراتيجية الاستنزاف (الوضع الذي كان قائمًا قبل 7 تشرين الأول/ أكتوبر).
مؤخرا، دخل سرب طائرات إعادة التزوّد بالوقود التابع للقوات الجوية الأميركية، إلى جانب مقاتلات إف-16، إلى مرمز القيادة الوسطى للولايات المتحدة، مما يؤشر بأيام متوترة. ولربما حان الوقت لمراجعة سياسة التسليح والردع الإيرانية، وفي هذه السياسة لا ينبغي أن تعمل إيران ومحور المقاومة كلاعبين سلبيين يشعران بالقلق إزاء اضطراب النظام الأمني والاقتصادي في الشرق الأوسط. بدلًا من ذلك، يحب عليهما أن يلعبا دورهما وأن يضعا التغلّب على الفوضى الناشئة على عاتق نفس الحكومات التي تدعي إدارة النظام العالمي والسيطرة عليه.
المصادر:
Beaufre, Andre. “An Introdution to Strategy’’. London:Faber and Faber Ltd., 1965
Lawrence Freedman, “ The First Two Generation of Nuclear Strategists” in peter paret, ed., Makers of Modern Strategy from Machiavelli to the Nuclear Age (Prinston, NJ: Prinston University Press, 1986)
ازغندی، سید علیرضا،(1384)، جنگ و صلح: بررسی مسائل نظامی و استراتژیک معاصر، تهران: سمت
*حسين حقيان.. باحث إيراني مختص في الشؤون العسكرية