ما هي نتائج الاشتباك الإيراني- الإسرائيلي المباشر؟
اعتبر استاذ العلاقات الدولية الإيراني آراش رئيسي نجاد أنّ إيران بدخولها بشكل مباشر والرد عسكريًا بهجومين صاروخيين غيّرت أسلوبها لفرض الردع تجاه إسرائيل. وفي مقال له في مجلّة "فورين بوليسي" الأميركية الذي ترجمته "جاده إيران"، أوضح رئيسي نجاد أنّ الهجوم الثاني كان أكثر نجاحًا من الهجوم الأول، حيث تم تخطي أنظمة الدفاع الجوية الإسرائيلية بشكل أكبر.
كانت الضربة الإيرانية الثانية على الأراضي الإسرائيلية بوابل من الصواريخ في الأول من تشرين الأول/ أكتوبر بمثابة تصعيد كبير في الصراع المستمر بين القوتين الإقليميتين.
بعد اغتيال إسرائيل لرئيس المكتب السياسي لحركة “حماس” إسماعيل هنية في طهران في تموز/ يوليو الماضي، وعمليات القتل الأخيرة للأمين العام لحزب الله حسن نصر الله والجنرال الإيراني عباس نيلفوروشان من الحرس الثوري الإسلامي (IRGC) في بيروت، شنّت إيران هجومًا علنيًا وكبيرًا ومباشرًا على عدوها اللدود إسرائيل.
والآن يهدّد الصراع الإيراني الإسرائيلي بدفع الشرق الأوسط برمته إلى حافة حرب إقليمية كاملة.
وبغض النظر عما إذا كانت تلك الحرب قد اندلعت أم لا، فإنّ تبادل الهجمات بين إيران وإسرائيل أدى بالفعل إلى معادلة قوة إقليمية جديدة ستستمر إلى ما هو أبعد من هذه المواجهة المحددة. لقد أصبحت سبع عواقب استراتيجية بعيدة المدى للصراع الإيراني الإسرائيلي واضحة المعالم.
أولاً، يتحوّل أساس الأمن القومي والاستراتيجية العسكرية الإيرانية تدريجيًا من الاعتماد على الحلفاء العسكريين غير الدولتيين في المنطقة نحو شكل جديد من الردع.
ويمكن ملاحظة هذا التحوّل العميق في استبدال الشخصيات الرئيسية في الهيكلية العسكرية الإيرانية: من القائد السابق لفيلق القدس التابع للحرس الثوري الإيراني الجنرال قاسم سليماني، والذي كان مسؤولًا عن العملية العسكرية الإيرانية خارج الحدود الإقليمية في المنطقة، إلى قائد القوات الجوية في الحرس الثوري الإيراني الجنرال أمير علي حاجي زاده.
ويشير هذا الأمر إلى أنّ استراتيجية المنطقة الرمادية التي تتبعها إيران، والتي أعطت الأولوية للصراع غير المباشر بين الحلفاء من غير الدول بما في ذلك حماس وحزب الله، أصبحت الآن نهجا تكميليًا.
ثانيًا، تخلّت إيران أيضًا عن نهج “الصبر الاستراتيجي”. فمنذ نهاية الحرب الدموية مع العراق التي دامت ثماني سنوات، تبنّى القادة العسكريون الإيرانيون استراتيجية سرية تقوم على امتصاص الألم الشديد والانتقام في الوقت الذي يختارونه. ومع ذلك، فإن عقودًا من التخريب الإسرائيلي المستمر على الأراضي الإيرانية أدت إلى خفض مستوى “الغموض الاستراتيجي” الذي تتمتّع به إيران إلى ما أصبح يُعرف بالصبر الاستراتيجي السلبي، الذي يتّسم بعدم وجود إجراءات انتقامية. وعلى الرغم من ترددها الواضح باتخاذ قرارات جريئة في السياسة الداخلية، فقد تخلّت إيران الآن عن صبرها الاستراتيجي للمرة الثانية. وقد خلصت، بعد ضغوط مكثفة من المؤيدين المؤثرين والرأي العام الأوسع داخل البلاد، إلى أنّ الفشل في الانتقام من شأنه أن يمثل نقطة تحوّل استراتيجية.
ثالثًا، أنشأت إيران الآن سياسة واضحة المعالم بشأن الردع. لقد أظهر الانتقام القوي للحرس الثوري الإيراني إرادة إيران وقدرتها على تنفيذ هجوم مدمّر على إسرائيل. وعلى النقيض من الضربة الأولى في نيسان/ أبريل، حيث تم اعتراض معظم الصواريخ والطائرات من دون طيار الإيرانية، أثبتت الضربة الصاروخية الثانية أنها أكثر نجاحًا، حيث اخترقت أنظمة الدفاع الإسرائيلية المتقدمة.
وعلى الرغم من أنّ إسرائيل تتمتّع بواحد من أكثر المجالات الجوية دفاعًا في العالم، ومجهّزة بأحدث التقنيات المضادة للصواريخ، إلا أنّ العديد من الصواريخ الإيرانية تمكّنت من ضرب المطارات الرئيسية في إسرائيل. وهذا ما يسلّط الضوء على مركزية القوة الصاروخية في استراتيجية الأمن القومي الإيراني، مما يعزز فكرة أنّ قدراتها الصاروخية من المرجح أن تظل غير قابلة للتفاوض في المحادثات المستقبلية مع الغرب. وقد تكون طهران الآن متحفزة أكثر لتعزيز قدراتها العسكرية، والتي قد تشمل نشر طائرات مقاتلة من طراز سوخوي 35، وشراء أنظمة دفاع روسية مضادة للصواريخ، وتوسيع التعاون العسكري مع موسكو.
رابعًا، تم أيضًا تحديد الخط الأحمر الجديد لإيران تجاه إسرائيل. منذ ما يقرب من 15 عامًا، شنّت تل أبيب ضربات مدمرة على القواعد العسكرية الإيرانية في سوريا، حتى أنها استهدفت بشكل مباشر كبار الجنرالات الإيرانيين.
ومع ذلك، فإنّ القصف الإسرائيلي للقنصلية الإيرانية في دمشق في أوائل نيسان/ أبريل تجاوز عتبة حرجة، مما دفع إيران إلى الرد على إسرائيل بوابل من الصواريخ والطائرات من دون طيار الأقل تقدمًا بعد أسبوعين. وكان هذا الأمر بمثابة انهيار للخطوط الحمراء التقليدية لإيران مع إسرائيل. وردًا على التصرّفات الإسرائيلية المستمرة، بما في ذلك اغتيال أحد قادة “حماس” في طهران واغتيال قادة حزب الله في بيروت، كان الانتقام الإيراني يهدف إلى إعادة تأسيس مستوى من الردع.
وفي المرة التالية، تجاوزت إيران خطين أحمرين مهمين: ضرب الأراضي الإسرائيلية من أراضيها، واستهداف دولة مسلحة نوويًا. ومن المثير للاهتمام أنّ إيران ضربت أراضي قوة نووية أخرى، باكستان، قبل أقل من عشرة أشهر. وكانت رسالة طهران واضحة: إنّ حرمة أراضيها هي خط أحمر أساسي لكل من الحكومة والمجتمع، حتى لو لم تتمكن من حماية قواعدها العسكرية بشكل كامل في سوريا من الضربات الجوية الإسرائيلية. ومع عدم وجود خط أحمر راسخ لاحتواء التنافس الإيراني الإسرائيلي، فمن المرجح أن يسعى الجانبان إلى إعادة رسم الحدود من خلال مواصلة الضربات المتبادلة، خاصة في الفترة التي تسبق الانتخابات الرئاسية الأميركية هذا العام.
خامسًا، يبدو أنّ نفوذ إيران في الشارع العربي قد تزايد. ومن المحتمل أن تؤدي مكاسب القوة الناعمة الناجمة عن الهجوم الإيراني الأخير إلى استعادة شعبية إيران في العالم الإسلامي، والتي شوّهها دعم طهران الثابت للرئيس السوري بشار الأسد.
منذ الحرب مع “حماس” في غزة، ارتفع النفوذ الإيراني بين الفلسطينيين والمجتمعات العربية بشكل ملحوظ. إنّ فوز مسعود بزشكيان في الانتخابات الرئاسية الإيرانية الأخيرة، إلى جانب الصوت القوي للتعاون الإقليمي بقيادة نائب الرئيس للشؤون الاستراتيجية محمد جواد ظريف ووزير الخارجية عباس عراقتشي، قد يساعد في تقليل التوتر بين طهران والدول العربية في الخليج الفارسي. ومع ذلك، لا تزال إيران تفتقر إلى مبادرة إقليمية قوية، وقد تواجه تحديات في الاستفادة الكاملة من هذه الفرصة وترجمة هذا النفوذ إلى تحوّلات ملموسة في ترتيب القوى الإقليمية.
سادسًا، يمكن للعملية الانتقامية الإسرائيلية ضد إيران أن تحدث تحوّلًا جذريًا في سياسة طهران النووية. هناك أصوات قوية في إيران، وأغلبها في المعسكر المتشدد، تدعو للسعي إلى الحصول على الطاقة النووية كوسيلة استراتيجية لاستعادة قوة الردع الكاملة للبلاد. ويزعم هؤلاء المؤيدون إنّ الأداة الأكثر فعالية لدى إيران لردع العدوان الإسرائيلي تكمن في قرارها الاستراتيجي بتطوير الأسلحة النووية بشكل كامل.
ومن الممكن أن يكتسب المنطق الكامن وراء هذه الحجة زخمًا كبيرًا في أعقاب أي هجوم انتقامي إسرائيلي محتمل على البنية التحتية النووية الإيرانية. ونتيجة لذلك، فإنّ احتمال وقوع أي ضربة عسكرية إسرائيلية قد يؤدي إلى تسريع سعي طهران للحصول على الطاقة النووية. إنّ هوس الغرب بنزع سلاح إيران الكامل، إلى جانب منح إسرائيل شيكًا على بياض للضغط على حلفاء إيران غير الدولتيين في المشرق العربي وحتى الأراضي الإيرانية، قد يؤدي إلى نتيجة غير مقصودة: إيران مسلّحة نوويًا.
سابعًا، يسلّط هذا الصراع الضوء على الصدام بين القوة التكنولوجية والقوة الجيوسياسية. وفي حين تستفيد إيران من مزايا جيوسياسية كبيرة، فإنّ نقطة ضعف إسرائيل تكمن في ضعفها الجيوسياسي، حيث تنحصر في منطقة صغيرة بين نهر الأردن والبحر الأبيض المتوسط. وقد شكل هذا الاختلاف الجيوسياسي استراتيجياتهما، حيث فضلت إيران عملياتها في المنطقة الرمادية بدعم من شبكتها من حلفائها غير الدولتيين، في حين تعتمد إسرائيل على استراتيجية الصدمة الأولى والضربة الوقائية المتجذرة في التفوّق التكنولوجي. على الرغم من أنّ التكنولوجيا تلعب دورًا متزايد الأهمية في الصراعات العسكرية، إلا أن العوامل الجيوسياسية تظل ضرورية في تشكيل مسار المنافسات الإقليمية. تعمل التكنولوجيا على تآكل ثقل الحقائق الجيوسياسية الدائمة، لكنها لا تستطيع أبدًا محوها بالكامل.
وبهذا المعنى، فإنّ الصراع المتصاعد بين إيران وإسرائيل يتحدى أيضًا الروايات التبسيطية عن “نهاية الشرق الأوسط” في السياسة الخارجية الأميركية. وفي سياق أوسع، فإنّ مصير المنافسات الكبرى لواشنطن في منطقتي المحيط الهادئ الهندي والأوروبي الأطلسي يتجه بشكل متزايد نحو محور الخليج والمشرق العربي حيث تعمل طهران على تعزيز علاقاتها مع موسكو وبكين. وتؤدي هذه الديناميكية إلى إعادة إحياء الجغرافيا السياسية في الشرق الأوسط. ويُعَدُّ الصراع الإيراني الإسرائيلي أحد تجلياته المبكرة، ولكنه أيضًا بعيد كل البعد عن الفصل الأخير.