الجادّة: طريقٌ في اتجاهين
قراءة طويلة9 أغسطس 2024 08:35
للمشاركة:

هل تجدي سياسة الاغتيالات في استعادة الردع الإسرائيلي؟

رأت الكاتبة داليا داسّا كاي أنّ الاغتيالات الأخيرة التي نفذتها إسرائيل قد تدلّ على الضعف الذي تشعر به بعد السابع من تشرين الأوّل/ أكتوبر، حيث تحاول ترميم صورة ردعها. وفي مقال نشرته مجلة "فورين أفيرز"، نقلت الكاتبة عن خبراء إسرائيليين أنً إسرائيل تشعر بالضعف أكثر من أي وقت مضى.

في ما يلي الترجمة الكاملة للمقال:

لقد خرجت الحرب المستمرّة منذ عشرة أشهر بين إسرائيل و”حماس” في قطاع غزة منذ فترة طويلة عن جغرافيّته المحلية، مما أدى إلى تصعيد عسكري خطير في جميع أنحاء الشرق الأوسط – اشتباكات قاتلة على الحدود الإسرائيلية اللبنانية، وهجمات الحوثيين في البحر الأحمر وعلى تل أبيب، وهجمات الميليشيات المتحالفة مع إيران ضد القوات الأميركية في العراق وسوريا، وحتى الاشتباكات المباشرة بين إسرائيل وإيران.

وبعد ذلك، وفي غضون 24 ساعة من الأسبوع الماضي، أعلنت إسرائيل مسؤوليّتها عن اغتيال فؤاد شكر، أحد كبار قادة حزب الله، في بيروت، ردًا على هجوم صاروخي لحزب الله على مرتفعات الجولان، ويُفترض أن تكون إسرائيل وراء عملية اغتيال رئيس المكتب السياسي لحركة “حماس” إسماعيل هنية في طهران. وقد جعلت هذه الضربة المتبادلة العديد من المراقبين يخشون اندلاع حرب إقليمية أكثر كارثية.

لماذا تلجأ إسرائيل الآن إلى التصعيد بهذه الطريقة المحفوفة بالمخاطر؟

من المؤكد أنّ هجماتها الأخيرة ليست غير مسبوقة في حد ذاتها، ولإسرائيل سجلٌّ طويل في اغتيال القادة الفلسطينيين والمئات من عناصر حزب الله في لبنان وسوريا. كما أظهرت إسرائيل منذ فترة طويلة قدرات استخباراتية تسمح لها بالتوغّل في عمق إيران.

ولم تؤدِّ جولات التصعيد السابقة خلال الأشهر العشرة الماضية إلى حرب إقليمية شاملة، لكنّ خفض التصعيد والاحتواء في نهاية المطاف ليسا مضمونين على الإطلاق؛ إنّ الحسابات العقلانية لأي دولة، والتي تفضّل ضبط النفس، يمكن أن تطغى عليها فجأة الأحداث على الأرض، مما يؤدي إلى حسابات خاطئة أو حتى قرارات استراتيجية متعمدة لإثارة صراع أوسع نطاقًا.

إنّ وتيرة وطبيعة الضربات الإسرائيلية الأخيرة تزيد بشكل كبير من خطر حدوث تصعيد أكثر خطورة. مما لا شك فيه أنّ قادة إسرائيل يدركون أنّ الاغتيالات المتتالية لشكر وهنية ــ وحقيقة أنّ أساليب القتل أدت إلى تعظيم إذلال إيران ــ من المرجح أن تدفع طهران، وربما الجماعات المسلّحة الأخرى التي تدعمها، إلى الانتقام.

تميل روايات الاغتيالات التي وقعت الأسبوع الماضي في وسائل الإعلام الغربية إلى تسليط الضوء على قدرات إسرائيل على شن هجمات عسكرية وتكنولوجية متطوّرة في عمق أراضي العدو. وبعد الإحراج الذي حدث في 7 تشرين الأول/أكتوبر، قد تعطي هذه الأوصاف الانطباع بأنّ الجيش الإسرائيلي أصبح لا يُقهر مرة أخرى. لكنّ هذا التفسير يخطئ في قراءة الحقائق الصعبة التي تواجهها إسرائيل. ربما تدفع إسرائيل حدود تصرّفاتها الإقليمية ليس لأنها تشعر بالقوة، بل لأنها تشعر بالضعف. فهي في الأساس لا تضيف إلا القليل من الحسابات الاستراتيجية الطويلة الأمد إلى قراراتها. لقد وجّه الهجوم الذي شنّته حماس في 7 تشرين الأول/أكتوبر ضربة مدمّرة لقدرتها الرادعة. والآن، ومع استعداد إسرائيل لتحمّل مخاطر أكبر واستيعاب التكاليف الأعلى، تسعى إسرائيل إلى الاستفادة من المزايا التكتيكية عندما تستطيع ذلك في محاولة محمومة لاستعادة الردع.

عنصر الخوف

ولكي نفهم حسابات إسرائيل الحالية، فمن الأهمية بمكان أن ندرك مدى التغير الذي طرأ على حالتها النفسية منذ السابع من تشرين الأول/ أكتوبر. فقبل هجوم “حماس”، كانت ثقة إسرائيل قد بلغت ذروتها. لقد أصبحت إسرائيل تعتقد بأنّ الدول العربية ستقبل بها حتى لو لم تحل صراعها مع الفلسطينيين، وأنها تستطيع ضرب إيران وحلفائها من دون عواقب تقريبًا أو تعريض الدعم الذي تتمتّع به من الولايات المتحدة للخطر. ثم، بين عشية وضحاها تقريبًا، تحوّلت تلك الثقة إلى شعور عميق بالضعف. في زيارة قمت بها في أواخر حزيران/ يونيو إلى تل أبيب، أخبرني خبراء أمنيون ومسؤولون سابقون في الدفاع والاستخبارات على حد سواء مرارًا وتكرارًا إنّ السابع من تشرين الأول/ أكتوبر قد قلب العديد من معتقدات إسرائيل السابقة بشأن قوتها. لقد حطّم هجوم “حماس” أبسط الافتراضات الإسرائيلية عن أنّ تفوّق الإسرائيليين العسكري والتكنولوجي قادر على ردع خصومهم، وعن قدرتهم على العيش بأمان خلف الجدران والحدود المحصنة، وقدرتهم على الازدهار اقتصاديًا من دون إحراز تقدم كبير نحو السلام مع الفلسطينيين.

والآن، يدرك الكثيرون في المؤسسة الأمنية أنّ “إسرائيل ليست بهذه القوة”، كما أخبرني مسؤول سابق في الأمن القومي بصراحة.

إنّ العديد من الإسرائيليين الذين يدرسون أو يعملون في مجال الأمن القومي غاضبون من حكومتهم بسبب إخفاقاتها الأمنية الهائلة في السابع من تشرين الأول/ أكتوبر وبعده؛ كما أنهم غاضبون من عدم محاسبة القادة الذين فشلوا في الحفاظ على سلامة البلاد، وانعدام الثقة في الحكومة منتشر.

ربما يكون رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو قد تلقّى تصفيقًا حارًا عندما ألقى خطابًا أمام الكونغرس الأميركي في تموز/ يوليو، لكنّ مستشاره للأمن القومي تساحي هنغبي لم يتمكّن من الحصول على كلمة واحدة عندما تحدث في مؤتمر أمني إسرائيلي في هرتسليا قبل أسابيع، وقاطعه الحضور واتهموا الحكومة بإهمال سلامة إسرائيل وخذلان الأسرى الذين ما زالوا يقبعون في غزة. وحتى داخل إسرائيل، هناك تصوّرٌ واسع النطاق بأنّ نتنياهو ربما يطيل أمد الحرب من أجل بقائه السياسي.

ويعكس هذا القلق والغضب تحديات داخلية ملموسة للأمن القومي الإسرائيلي. فالجيش الإسرائيلي منتشر على جبهات متعددة، من غزة إلى الضفة الغربية إلى شمال إسرائيل وخارجها. وكانت محاولة نتنياهو لإصلاح السلطة القضائية في البلاد في النصف الأول من عام 2023 قد خلقت بالفعل انقسامات خطيرة بين القادة المدنيين وكبار القادة العسكريين؛ وردًا على حملة ائتلاف نتنياهو، هدّد الآلاف من جنود الاحتياط الإسرائيليين بأنهم لن ينضموا إلى الخدمة.

يواجه الجيش تهديدات غير مسبوقة من المتطرّفين المحليين، بما في ذلك من داخل صفوفه وصفوف الحكومة. في الأسبوع الماضي فقط، اقتحم نشطاء وسياسيون يمينيون إحدى القواعد العسكرية الإسرائيلية للاحتجاج على اعتقال جنود الاحتياط المتهمين بإساءة معاملة السجناء الفلسطينيين. إنّ إسرائيل تخسر الدعم الدولي بسبب الخسائر الهائلة في الأرواح والدمار في غزة، وفي المنتديات القانونية في لاهاي تواجه تدقيقًا متزايدًا بسبب سلوكها في الحرب واحتلالها المستمر للضفة الغربية.

علاوة على ذلك، إنّ تأثير الهجوم الإيراني في نيسان/ أبريل على إسرائيل لا يحظى بالتقدير خارج البلاد. ومن الواضح أنّ إسرائيل أخطأت في حساباتها عندما استهدفت أفرادًا من الحرس الثوري الإسلامي في منشأة في دمشق اعتبرها الإيرانيون موقعًا دبلوماسيًا، ولم تتوقّع مثل هذا الرد غير المسبوق والضخم والمباشر الذي يشمل مئات الطائرات من دون طيار والصواريخ التي تم إطلاقها من الأراضي الإيرانية باتجاه إسرائيل.

وعلى الرغم من إعجاب الإسرائيليين بالدفاع المتطوّر والمنسّق الذي قادته الولايات المتحدة والذي صدّ الهجوم، إلا أنه شوّع صورتهم التي تعتمد على الذات. وقد طغى على أي شعور بالانتصار التحذير من أنّ إيران كانت ستبادر بشنّ هذا الهجوم الخطير – والقلق من أنّ الهجوم التالي من هذا القبيل قد لا يكون من السهل صده.

وكان المحللون الإسرائيليون سعداء لأنّ الانتقام الإسرائيلي – وهو هجوم جوي محدود على قاعدة عسكرية إيرانية في أصفهان استهدف الدفاعات الجوية الإيرانية – أظهر قدرة إسرائيل على ضرب أهداف بدقة داخل إيران، بما في ذلك المواقع القريبة من المنشآت النووية الإيرانية.

لكن مسؤولي الدفاع الإسرائيليين لا يشعرون بالضرورة بالارتياح في الاعتماد على الردع عن طريق الإنكار – أي من خلال إقناع الخصوم بأنّ الهجمات لن تنجح – كما تفضل الولايات المتحدة.

ومن وجهة نظر هؤلاء المسؤولين، لم يكن الدفاع عن إسرائيل في شهر نيسان/ أبريل ناجحًا بالكامل، لأنّ التحالف الدفاعي لم يمنع الهجوم في نهاية المطاف؛ لقد حدّ الضرر فقط.

ويفضّل مخططو الدفاع الإسرائيليون الردع بالعقاب، أي أن يظهروا للأعداء أنّ الهجمات ستؤدي إلى عواقب. ويشعر العديد من المحللين الأمنيين الإسرائيليين بالقلق إزاء تآكل مكانة إسرائيل الإقليمية؛ إنهم يشعرون بالقلق من أنّ إيران وحلفاءها يكتسبون قوة، وأنّ إيران قد يتم تحفيزها بشكل أكبر على تسليح قدراتها النووية إذا اعتقدت طهران بأنها غير قادرة بما فيه الكفاية على ردع إسرائيل من خلال الوسائل التقليدية. وهم يعتقدون بأنّ البلاد تتدهور إلى مرتبة الدرجة الثانية بينما تحاول إيران الوصول إلى “دوري الأبطال”، على حد تعبير أحد مسؤولي الأمن القومي السابقين.

وقال لي مسؤول دفاعي سابق آخر إنّ إسرائيل تفقد قوة الردع “إلى حد لم يسبق له مثيل”. ومع ذلك، تستمر القيادة السياسية في إسرائيل في إخبار شعبها بأنّ إسرائيل تربح الحرب.

وكان الهجوم الإيراني في نيسان/ أبريل سببًا في تعميق تصور الإسرائيليين لتغير جوهري في “روح” الشرق الأوسط، حيث يعتقدون بأنّ خصوم إسرائيل ربما يعتقدون الآن بأنّ إسرائيل هو في الواقع هدف واقعي.

قد يكون هذا القلق مبالغًا فيه، إذ تحتفظ إسرائيل بالقدرات العسكرية الأكثر تقدمًا في المنطقة، وتستمر في الحصول على دعم قوي من الولايات المتحدة والقوى الغربية الأخرى في حربها ضد إيران، لكن المحللين الإسرائيليين الرصينين يعبّرون الآن عن شعور بالتهديد الوجودي الذي يصفونه بأنه مختلف عن أي شعور شعروا به منذ استقلال البلاد في عام 1948.

ولكن على النقيض من عام 1948، أشار أحد كبار المسؤولين السابقين إلى أنّ إسرائيل لا تستفيد إلى دروس رئيس وزرائها المؤسس دافيد بن غوريون. ونصح بن غوريون بأنّ أفضل السبل للتعويض عن الضعف هي تعزيز التماسك الاجتماعي، وتعميق العلاقات الدبلوماسية، والسعي إلى السلام. وتتحرك إسرائيل في الاتجاه المعاكس على كافة الجبهات.

إلى المسار المتشدد

وفي زيارتي، أخبرني أحد المسؤولين الحكوميين السابقين إنّ “الأرض تتغيّر تحت أقدامنا”. وهذا صحيح في بعض النواحي؛ وفي حالات أخرى، فهو تصوّر، وصورة معاكسة للصورة الذاتية المفرطة التي كان الإسرائيليون يحملونها قبل 7 تشرين الأوّل/ أكتوبر. ولكن بالنظر إلى التصور وواقع الضعف المتزايد – وثقة الإسرائيليين بكونهم سيحتفظون بدعم الولايات المتحدة – فإنّ إسرائيل من المرجح أن تحافظ على موقف عدواني في المنطقة حتى لو كان ذلك يزيد من خطر نشوب حرب إقليمية أوسع.

وبعد صدمة السابع من تشرين الأول/أكتوبر، فإنّ قبول الجمهور الإسرائيلي للمخاطرة وشهيّته للقيام بأعمال هجومية قد تكونا أعلى أيضًا. وكما قال لي أحد المحللين الإسرائيليين: “كل شيء يمكن تصوّره الآن”.

لكنّ إسرائيل في طريقها إلى الإفلاس من دون أي استراتيجية سياسية. إنّ وضع الثقة في القوة العسكرية الغاشمة لاستعادة الردع ومضاعفة المواجهة مع إيران وحلفائها من دون خطة سياسية أو استراتيجية من غير المرجح أن يغيّر الديناميكيات الإقليمية الناشئة التي تقلق المخططين العسكريين الإسرائيليين. ومن غير المرجح أن يردع أعضاء “محور المقاومة”، الذين قد يضاعفون جهودهم بطرق غير متوقعة ويفاجئوا إسرائيل مرة أخرى.

من المؤكد أنّ إنهاء الحرب في غزة من شأنه أن يساعد في الحد من التهديدات الرهيبة التي تواجهها إسرائيل الآن، رغم أنّ الجولة الحالية من التصعيد من غير المرجح أن تؤدي إلى التوصل إلى اتفاق لوقف إطلاق النار أو إطلاق سراح الرهائن الإسرائيليين المتبقين. ولكن حتى إنهاء الصراع في غزة لن يحلّ في نهاية المطاف المعضلة الاستراتيجية الأكبر التي تواجهها إسرائيل. إذا كانت إسرائيل لا تزال تعتقد بأنّ دمج نفسها بشكل كامل في الشرق الأوسط من خلال إبرام اتفاقيات تطبيع مع جيرانها العرب سيؤدي إلى تهميش الجماعات المتطرفة المدعومة من إيران وتقليل العداء تجاهها، فيجب عليها أن تتصالح مع حقيقة أنّ صراعها مع الفلسطينيين يشكل التهديد الوجودي الأساسي لها. إنّ العمليات العسكرية التكتيكية المبهرة قد تعطي الوهم بالنصر، ولكن السلام الدائم مع الفلسطينيين هو وحده القادر على جلب الأمن الحقيقي.

جاده ايران تلغرام
للمشاركة: