مذكرات ظريف “طاقة الصبر”: الصمود يعادل المصلحة الوطنية
يسلّط وزير الخارجية الإيراني السابق محمد جواد في كتابه "طاقة الصبر" الضوء على أهمية الصمود في صون المصالح الوطنية، فضلًا عن زيادة القوة، حيث عنون هذا القسم بـ "الأولويات". كما لخّص ظريف في قسم بعنوان "عصر ما بعد القطبية" نظرته إلى المشهد الدولي الذي يتشكل خلال هذه الحقبة.
“جاده إيران” تقدم لقراءها القسم الثالث والرابع من ترجمتها للفصل الرابع من الكتاب المعنون بـ”إطار العلاقات الخارجية”
بعد الاتفاق على مفهوم قوة ومكانة السلك الدبلوماسي في تعزيز المصالح الوطنية، لا بدّ من التوصل إلى توافق داخلي بشأن ترتيب أولويات المصالح الوطنية. وطبعًا قبل هذه المرحلة، يجب على المفكّرين وقادة الأحزاب أن يذكروا التوجهات والمواقف السياسية المختلفة، وأن يوضحوا قائمة وأولويات مصادر المصالح الوطنية من وجهة نظرهم ونظر أقرانهم.
البعض يرى أنّ الناتج المحلي الإجمالي هو الأولوية الأكثر أهمية في سلسلة ركائز المصالح الوطنية، وهناك مجموعة ترى أنّ القوة العسكرية وامتلاك المزيد من الصواريخ هي الأولوية الأكثر أهمية. من وجهة نظر بعض المثقّفين، فإنّ الناتج المحلّي الإجمالي هو الذي يحدّد الدولة القوية، فيما يعتقد البعض أنّ التنمية ورفاهية الشعب هي أهم أولويات الحكومة الوطنية.
أعتقد بأنّ أولوية الحكومة الوطنية هي تحديد أي مجموعة من ركائز السلطة لديها أفضل النتائج لزيادة النفوذ وتقليل نسبة تعرّض الدولة للخطر. ما هي العوامل التي تحدّ من نقاط الضعف في البلاد وإيصال نفوذ البلاد إلى الوضع الأمثل؟ وبالطبع، فإنه في جميع المقاييس يجب أن يكون للناس موقع محوري؛ لأنّ الحكم الأمثل والتنمية، وحتى القوة العسكرية والردع، لا يمكن تحقيقه من دون الاعتماد على الشعب. ربما في هذا الإطار، يمكننا تصنيف المصالح الوطنية لإيران على النحو التالي، وبناءً على ذلك، نحدّد مفهوم السياسة الخارجية.
مما لا شك فيه أنّ الرّكن الأثمن للمصالح الوطنية هو الصمود، صمود البلاد والأمة، وليس صمود المسؤولين، أسمى مصلحة وطنية لجميع البلدان. من وجهة نظر هانز مورغنثاو، الصمود بمفهومه الأوسع، والذي يشمل الصمود الفيزيائي، الصمود السياسي وصمود الهوية الثقافية، يشكّل مفهوم المصلحة الوطنية.
في مثل هذا الإطار، تُعتبر السيادة الوطنية واستقلال البلاد، ومن ثمّ وحدة أراضيها، من أهم الركائز الأساسية للمصلحة والأمن القومي. لكن في رأي الكاتب، هناك ركيزتان تحفيزيّتان للجمهورية الإسلامية الإيرانية توازيان وحدة أراضي البلاد؛ أوّلاً، الشرعية الداخلية ورضا الشعب، ومن ثم الكرامة الوطنية. هاتان الركيزتان والحفاظ عليهما، شرطان للصمود والاستقلال والسيادة الوطنية والهوية ووحدة أراضي البلاد. ومع أنّ الكرامة موجودٌ ذهني، إلا أنّ خلق صورة مشرّفة للجمهورية الإسلامية الإيرانية داخل البلاد وخارجها هو دعمٌ للمصالح والأمن الوطني. في الصفوف الخلفيّة، تأتي التنمية المستدامة والرفاهية العامة، واللتان تشكّلان شرطًا ضروريًا للشرعية الشعبية، وحتى الكرامة الوطنية. كما يُعَدُّ الأمن والتضامن الداخلي أحد الركائز الأساسية للمصالح الوطنية التي ترتبط ارتباطًا وثيقًا بقدرة الردع لدولة مثل إيران.
زيادة القوة، بمعنى زيادة الهيمنة وتقليل نقاط الضعف، من الركائز الأخرى للمصلحة الوطنية. كما قيل، إنّ القوة لا تقتصر على الرموز المادية فقط. القوّة العسكرية عنصر أساسي في تصنيف القوة الوطنية، لكن القوة التحفيزية والملهمة أيضًا جزء لا يتجزّأ من القوة، فالإلهام هو الركيزة المحورية للهيمنة، والتي ينبغي السعي لتوسيع الحضور في المفهوم الدلالي وليس في المفهوم المادي. أصبحت هذه الحقيقة واضحة حتى بالنسبة للقوة العسكرية الأولى في العالم اليوم، ويمكن تصنيف ركائز أخرى للمصالح الوطنية في العلاقات الدولية النافعة والحضورِ في الأحداث الإقليمية وخلقِ صورة دولية للبلاد.
عصر ما بعد القطبية
ومع نهاية الحرب الباردة، أصبحت الهياكل الدولية متنوّعة، ولم تعد قادرة على فرض أطر جافة وقاسية على الجهات الفاعلة وتحديد نتائج تصرّفاتها سلفًا. وتنظّم الجهات الفاعلة جهودًا محسوبة ودقيقة في مجالات مزاياها النسبية لإيجاد حل أفضل، وكما أنّ المعرفة الصحيحة بالظروف والتخطيط الذكي المبني على هذه المعرفة يمكن أن يؤدي إلى تقدّم كبير للنشطاء في المجتمع الدولي، فإنّ القياس الخاطئ يمكن أن يؤدي إلى زوالها.
أصبحت ركائز ومراكز القوّة عديدة ومتنوّعة، وفقدت الحكومات احتكار النشاط في العلاقات الدولية. وقد باءت الجهود التي استمرّت ثلاثة عقود من الزمن لإقامة نظام هيمنة أحادي القطب من خلال “حروب لا نهائية”، “التهديد الأمني” و”القسر الاقتصادي” بالفشل، على الرغم من أنّ المعاناة الشديدة خلّفت خسائر بشرية لا تُغتفر، وإتلافًا واسع النطاق لاحتياجات وإنجازات البشرية. ومن ناحية أخرى، فإنّ النظريات الهادفة، مثل “نهاية تاريخ”، “صراع الحضارات” وخلق الأعداء”، والفرضيّات الذهنية النظرية والسياسية، لم تتمكّن من إيصال أصحابها إلى المكان المطلوب.
أدت الأبحاث الأكاديمية وتجربة أربعة عقود من النشاط والتأمّلات النظرية والعملية لهذا الطالب في العلاقات الدولية، إلى رؤية مفادها بأنّ النظام الدولي آخذ في الظهور كنظام “ما بعد القطبية”؛ لا أحادي القطب ولا ثنائي القطب ولا متعدّد الأقطاب أو أي شكلٍ منهما، على الرغم من استمرار التفاوت في القوة المادية والتحفيزية بين اللاعبين، ومن قبلهم الولايات المتحدة الأميركية. وسيحتفظ عدد من اللاعبین بقوة مادية وتحفيزية أكبر بكثير من اللاعبين الاخرین في المستقبل المنظور، لكنّ هذا التفاوت لا يؤدي إلى تشكيل أقطاب جديدة. إنّ تكوين قطب في النظام الدولي لا يتحقّق فقط بامتلاك الكثير من القوة، بل بحاجة إلى وفاء المرتبطين بهذا القطب لهذا القطب.
تعمل العديد من الجهات الفاعلة الحكومية وغير الحكومية في وقت واحد في مختلف مجالات “التعاون” و”التنسيق” و”التشبيك”. عصر التحالفات الدائمة في نهاياته، وبدأت التحالفات المؤقتة الموضوعية في الظهور بشكل متزايد على الساحة الدولية. وفي هذا الإطار، ستشكّل الشبكات مع الأعضاء الحكوميين وغير الحكوميين في “الأنظمة الموضوعية الاقليمية” أبرز مظاهر التعاون والتآزر والتنسيق في نفس الوقت. من البديهي أنه ليست كل “عُقد الشبكة” متماثلة ومتساوية.
في عالم ما بعد القطبية المتنوّع، مكانة اللاعبين الإنسانيين التي تشمل صُنّاع القرار والمسؤولين على المستوى الوطني والإقليمي وغير الحكومي هي مكانة رئيسة وأساسية. إنّ الحتمية الجيوسياسية لا معنى لها في عالم اليوم. على الرغم من أنّ العوامل السياسية والجغرافية والاستراتيجية المقيّدة أو الميسّرة ليست من دون تأثير، إلا أنّ كل هذه العوامل لا يمكنها إجبار العامل الإنساني على اتباع سياسة ما. على الرغم من كل التقدّم المذهل في التكنولوجيا والذكاء الاصطناعي، سيبقى النشاط الإنساني عاملًا حاسمًا للمستقبل المنظور.
في هذه الحالة، فإنّ الشرط الأساس للنشاط هو المعرفة الواقعية لظروف الشخص والعالم من حوله؛ وبناءً على ذلك، ومن خلال فهم المزايا النسبية، يمكن تحسين مكانة البلاد وتوفير دعم قوي لأمن وراحة المواطنين.
تمتّعت العلاقات الدولية في حقبة ما بعد الحرب الباردة بحالة خاصة من التعقيد والحرب والصراع بين القوى العظمى الذي كان سمة الفترات الانتقالية السابقة. في هذه الفترة، تحوّلت إلى مصالحة متوترة لتأسيس مجالات الميزة النسبية ومحاولة تحقيقها، وكسب مكانة متفوّقة في النظام الدولي المستقبلي.
معظم الناشطين الدوليين يحاولون اتّباع نهج ثوري ليتمكّنوا خلال الفترة الانتقالية – والتي تحصل بسبب اختلال البنية الجافة والصلبة للنظام ثنائي القطب – من أن يكونوا أكثر تغيّرًا، ويزيدوا من مكانة الوسيط واختيارهم الذكي الذي يرفع عبر النشاط الأمثل مكانته في النظام المستقبلي؛ الولايات المتحدة في مجال الأمن والاتحاد الأوروبي في مجال تغيير الأفكار والصين في سياق التجارة والصناعة والابتكار وروسيا في مجال الطاقة، وغيرهم من الجهات الفاعلة حسب قدراتها في مختلف المجالات.
كانت نهاية الحرب الباردة غالبًا هزيمة الكتلة الشرقية، وليس انتصار الكتلة الغربية. لكنّ الولايات المتحدة الأميركية، التي كانت تأمل في الفوز في الحرب الباردة، حاولت من خلال قيادة التحالف الدولي بدعم من مجلس الأمن طرد العراق من الكويت، وغزو العراق على الرغم من فشلها في الحصول على دعم مجلس الأمن، للاستفادة من تفوّقها الذي لا يمكن إنكاره في المجال العسكري، وتشكيل العالم الأميركي أحادي القطب. وهذا الطريق اتبعه رؤساء الولايات المتحدة من الحزبين، الجمهوري والديمقراطي، في الفترة من نهاية الحرب الباردة عام 1991 إلى الغزو الثاني للعراق عام 2003 (حروب إدارة كلينتون ضد السودان، الصومال، ليبيا، العراق، يوغوسلافيا وكوسوفو)، وأظهر الإجماع النسبي للنخب السياسية الأميركية على أسلوب إشعال الحروب، بل والمواجهة المباشرة في الحرب مع قوى الوسط لبناء “النظام الدولي الجديد” و”القرن الأميركي الجديد”، مع التفوّق والهيمنة العسكرية للولايات المتحدة.
وصل الاتجاه المتزايد للأحادية العدوانية للولايات المتحدة خلال إدارة بوش (الابن) والمحافظين الجدد إلى ذروته في الحرب ضد الإرهاب والغزو الثاني للعراق عام 2003، والتي أصبحت تُعرف باسم “الحروب المستمرة”.
أظهرت هذه السياسة الرامية إلى تحقيق التفوق الممنهج والدائم، عدم كفاءتها بوضوح. فشلُ سياسة الحروب المستمرّة التي اتبعتها الولايات المتحدة في فترة الأربعة عشر عاماً بين نهاية الحرب الباردة وغزو العراق وعواقبه، وصل إلى حد تشكيل لجنة من الحزبين برئاسة شخصيّتين معروفتين من الجمهوريين والديمقراطيين هما جيمس بيكر ولي هاملتون، للبحث في هذا الفشل. تحقيقات اللجنة خلصت إلى أنّ سياسة الحرب من أجل الهيمنة، والتي سُمِّيَت بالحرب ضد الإرهاب، قد فشلت. ومع قبول عدم فعالية الحرب، اضطرّت الولايات المتحدة إلى تغيير مسارها في منتصف العقد الأول من القرن الجاري من الحروب المستمرّة إلى حل “التهديد الامني”، وأيضا تكثيف الحروب الاقتصادية على شكل عقوبات، من خلال استغلال الهيمنة المتزايدة على الأسواق المالية والعملة، وخاصة بعد الأزمة المالية عام 2008.
المقولة التي يمكن أن تكون أساسًا للمزيد من التحقيقات التي يجريها الباحثون هو أنّ المبادرين للحروب في القرنين العشرين والحادي والعشرين فشلوا في الحروب التي بدأوها، وفي بعض الأحيان تم تدميرهم. ولا شكّ بأنّ اعتقاد القوى المهاجمة كان الإيمان بالتفوّق النسبي أو المطلق على الخصوم عند بدء الصراع. إلا أن أياً منهم لم يتمكّن في نهاية الصراع من تحقيق أهدافه المُعلنة عند بداية الصراع. هذه المقولة لا تعني التنبّؤ بنهاية الحرب أو تقادمها؛ بل يعني عدم كفاءتها وعدم تحقيقها لنتائجها. إنّ عدم فعالية الحرب يشكّل تبلوراً لاتجاه آخر متنامي في العلاقات الدولية، والتي تعني أنّ “الألعاب بمحصلة الصِفر” لم تعد ممكنة. فالنشاطات إما أن تؤدي إلى “نتيجة إيجابية” أو “نتيجة سلبية”.
يبدو أنّ السلام والمصالحة في تعاليمنا الدينية أسمى وأكثر قبولًا من الصراع وسفك الدماء. القرآن الكريم وضمن وصيّته بامتلاك الأدوات العسكرية والاتصالاتية للردع، يَعتبر أنّ أساس القوة هو العون الإلهي ودعم الشعب المؤمن. الآيات من 55 إلى 64 من سورة “الأنفال” توضح هذه المقولة بشكل جيّد. البعض منّا ينتبه إلى الآيات الشريفة من 55 إلى 60 فقط، بينما بعدها مباشرة مجموعة من أقسى آيات القرآن الكريم بما يتعلّق بالتعامل مع الكفار الناقضين للعهد. تشير الآية المباركة 61 من سورة الأنفال إلى قبول الصلح مع هؤلاء الكفار الناقضين للعهد. في الآيات اللاحقة ومن خلال تأكيدين، يعتبر القرآن أنّ ركيزة القوة هو الإيمان بنُصرة الله ودعم المؤمنين، وليس بالأسلحة أو حتى بمعدات الاتصال.
للإطلاع على أبرز ما قدمته “جاده إيران” من كتاب مذكرات ظريف إضغط هنا