الجادّة: طريقٌ في اتجاهين
قراءة طويلة28 مايو 2024 20:29
للمشاركة:

مذكرات ظريف “طاقة الصبر”: هذه أسباب الهجوم الأميركي على العراق بدلًا من إيران

في الفصل الرابع من كتابه "طاقة الصبر"، يعبّر وزير الخارجية الإيراني السابق محمد جواد ظريف عن شكواه لحالة وزارة الخارجية في إيران، حيث يرى في هذا الجزء المعنوان بـ "تنوع مصادر القوة ومكانة الشعب" أنه لا سلطة لديها في السياسة الخارجية للبلاد بينما تتحمّل هي المسؤولية عند وقوع أي مشكلة، وحذر في هذا السياق من تداعيات خطيرة قد تنعكس سلبيًا على البلاد جراء هذا التوجه. كما عدد الوزير السابق الأسباب التي دفعت بالولايات المتحدة لاختيار العراق كهدف لحربها عام 2003، بالرغم من ضغوط كثيرة تعرضت لها من قبل أطراف عديدة منها إسرائيل بهدف تحويل هذا الهجوم ليستهدف طهران بدلًا من بغداد.

“جاده إيران” تقدم لقراءها القسم الثانی من ترجمتها للفصل الرابع من الكتاب “إطار العلاقات الخارجية”

في صراعات الخطابات، يرى الشخص المسؤول عندما يكون صاحب توجّه اقتصادي أنّ الناتج المحلّي الإجمالي هو الذي يحدّد القوة، أما إذا كان ذلك الشخص عسكريًا يعتبر عدد الصواريخ والسفن هي التي تحدّد القوّة، بينما يرى مسؤول البروباجندا أنّ الرأي العام هو الذي يحدّد القوة، فيما يعتقد مسؤول الدبلوماسية متعددة الأطراف بأنّ عدد الأصوات في الجمعية العامة للأمم المتحدة هو الذي يحدّد القوة.

طريقة النظر إلى القوة تعتمد في كثير من الموارد على طبيعة الفرد، بمعنى أنه يُنظر إلى القوة بحسب الطبقة الاجتماعية. وبطبيعة الحال، يجب أن يكون لوزارة الخارجية رؤية عابرة للطبقات، لأنها تمثّل كلّ نظام الحكم ومحصّلة قدرة البلاد خارج الحدود.

وفي النظرة أحادية البعد للسلطة، تعتمد قدرة الدولة على الخلفية الفكرية أو المهنية للمتحدث، أو على مزيج من النوعين، الأدوات الحربية أو الاقتصاد أو الصورة العالمية للدولة؛ في حين أنّ قدرة الدولة لها ركائز كثيرة. إذا كانت قدرة دولة ما تُقاس فقط من خلال النظر للمعدّات العسكرية، فإنه من المنطقي أن تسقط دولة مثل إيران في وجه دولة لها ميزانية عسكرية أكبر بـ60 إلى 70 ضعفًا.

ما قلته في جامعة طهران، وبعد التحريف والتشويه المُغرض، أدى إلى تصورات غير صحيحة باتت محفورة في أذهان البعض كان مفادها أنّ الصاروخ لا يمثّل قدرة إيران، لأنّ هذا الصاروخ يمكن للولايات المتحدة أن تدمّره، ولديها ما هو أفضل وأكثر تطوّرًا منه. ما لا يمكنها تدميره هو صمود الشعب. إذا تلقّفت الولايات المتحدة هذه الرسالة التي تتضمن أنّ الصواريخ هي وسيلة الردع الوحيدة لإيران، وبأنّ الحُكّام فقدوا تأييد الشعوب، فبلا شك ستستخدم قدراتها العسكرية المتفوّقة ضد إيران.

بشكل خاطئ فُهم هذا الحديث على أنه إهانة للقدرة الدفاعية، أو على أنه معارضة للزيادة القدرة الدافعية للبلاد. في حين أنّ وجهة النظر التي أثيرت هي أنّ الاعتماد فقط على القوة العسكرية أو الاقتصادية، وإهمال أو حتى التضحية بمكوّنات القوة الأخرى، مثل اعتبار أنّ القوة المعنوية والتحفيزية للثورة الإسلامية ليست حلًّا مناسبًا لمواجهة تحديات العصر المعقّدة، وتجاهل العديد من جوانب قدرة البلاد، سيؤدي إلى إضعافها في النهاية.

وكما ذكرنا سابقاً، فإنّ كلام الإمام الراحل وقائد الثورة أكثر تأكيدًا واستحكامًا من كلام الكاتب. حديث الإمام الراحل في لقائه مع أعضاء البرلمان في 24 كانون الثاني/ يناير 1983 يعبّر بوضوح عن وجهة النظر هذه. “لا تظنّوا أنّ القوة العسكرية قد حمَتكم؛ بل إن قوّة إيمانكم ودعم الشعب حفظكم. يجب المحافظة على هذا الدعم، فإذا ضاع هلكنا جميعًا وسيواجه الإسلام مشاكل أخرى”. كلام قائد الثورة أمام أهالي كرمان وخوزستان بتاريخ 24 كانون الأول/ ديسمبر 2023 يوضح بشكل كبير دور الشعب: “الوحدة الوطنية والحضور القوي للشعب في الميادين يجلبان القوة الوطنية، والقوة الوطنية تجلب الأمن، والأمن أساس التقدّم العلمي والازدهار الاقتصادي وحل المشكلات الاقتصادية والسياسية والثقافية المختلفة”.

أساس وجهة نظر الكاتب ليست نظرية أو خطابية، بل تعتمد على التحليلات الأميركية لقدرات إيران، فمثلاً في نهاية العقد الاول من القرن الـ21، قدّمت مجموعة علماء أميركيين خطّة لتدمير فوردو. لكنهم في النهاية خَلَصوا إلى أنّ هذا العمل ليس مناسبًا، لأنهم من خلال ذلك ربما يدمّرون المنشأة التي يعتقدون بأنها مركز لصنع القنبلة النووية، لكنّ ذلك سيزيد من صمود الشعب الإيراني. وربما سيخلقون اعتقادًا لدى الشعب الإيراني بأنه يجب التوجه لصنع قنبلة نووية. وبعبارة أبسط، فإنّ العلماء النوويين الأميركيين يعتبرون أنّ إرادة الشعب ومقاومته بمثابة الرادع الأساسي ضد أي هجوم عسكري يستهدف المنشآت النووية، وليس أنّ المنشآت النووية تردع وتحافظ على سلامة الناس.

والمثال الآخر هو الغزو الأميركي للعراق عام 2003. منذ عام 2002، وفي هذه الفترة بين الهجوم الأميركي على أفغانستان والهجوم الثاني على العراق، دار جدل فكري وسياسي عميق في الولايات المتحدة عما إذا كان هدف الهجوم سيكون إيران أم العراق. وما كان يجري خلف الستار وفي المراكز البحثية والسياسية الأميركية هو كيفية التأسيس للتفوّق المؤقت للولايات المتحدة بعد خسارة الاتحاد السوفياتي في الحرب الباردة. القلق بشأن صعود الصين، ضاعف الحيرة التي أصابت الولايات المتحدة في ما يتعلّق بإضفاء الطابع المؤسسي على العالم الأحادي القطب. وكان الحل الذي اّتفقت عليه مختلف الأحزاب والنخب السياسية الأميركية هو استخدام القوة العسكرية التي لا مثيل لها لتحقيق هذا الهدف. ولذلك، فإنّ الغزو الأميركي لأفغانستان والعراق هو أكثر من مجرّد مكافحة الإرهاب وأسلحة الدمار الشامل، بل يهدف إلى تنظيم الهيمنة الأميركية، عبر استغلال القدرة العسكرية المتفوّقة لهذا البلد.

لقد حاول الإسرائيليون واللوبي العربي جعل التوجه العدواني للإدارة اللأميركية وهجومها العسكري ضد إيران. ذهب رئيس وزراء إسرائيل آنذاك أريئيل شارون إلى واشنطن وقال مقولته الشهيرة: ” إنّ بغداد عنوان خاطئ، والعنوان الصحيح هو طهران”. وسعى اللوبي العربي بمساعدة اللوبي الصهيوني إلى حرف الغزو الأمريكي الثاني بعد أحداث 11 أيلول/ سبتمبر إلى إيران، من خلال عبارة: “الرجال الحقيقيون يذهبون إلى طهران”.

كشفُ مشروع التخصيب في صيف عام 2002 جاء في إطار هذا التوجه، حيث قامت بذلك إسرائيل والعرب ومرتزقتهم في منظمة مجاهدي خلق، لتمهيد المجال للهجوم على إيران بدلاً من العراق. لكنّ الولايات المتحدة هاجمت العراق لسببين رئيسين، رغم أنّ العراق من حيث كم وتطوّر الأسلحة والقدرة العسكرية التقليدية لا يقلّ عن إيران.

  • 1- الإجماع الأمني الدولي ضد العراق الذي بُني وتأسّس في الفترة من 1991 إلى 2002 بعدد كبير من قرارات مجلس الأمن تحت الفصل السابع من ميثاق الأمم المتحدة. حتى معارضو الحرب مثل الروس، الصينيون، الفرنسيون والألمان لم يتمكّنوا من دعم العراق. لقد أدى إعطاء الملف جانبًا أمنيًا إلى زيادة تكلفة دعم العراق وخفض من تكلفة مواجهة هذا البلد.
  • 2- دعم الشعب الإيراني لحكّامه، وحرمان صدام حسين من دعم أغلبية شعبه، دفع الولايات المتحدة إلى الاعتقاد بأنّ نتيجة الصراع مع العراق رغم أسلحته المتقدّمة ستكون نصرًا خاطفًا، ونتيجة الصراع مع إيران، ستكون تحدّيًا طويل الأمد على امتداد الجغرافيا الإيرانية الشاسعة، بسبب صمود الشعب.

وبالنظر إلى هذه الخلفية، فإنّنا بحاجة إلى إعادة بناء منظومتنا المعرفية عن مصادر القوة المختلفة وأسباب وعوامل الضعف، وحتى ركائز الردع ضد العدوان والخرق الأمني والمعلوماتي الأجنبي. وكما سبق وذكرنا، قَبِلَ الدستور برؤية القوة والأمن القومي متعدّد الأطراف وكان فعّالًا للغاية، ومنع النهج أحادي البعد في مسألة القوة والمصالح الوطنية.

إنّ اتباع نهج سياسي أو اقتصادي أو عسكري أحادي الركيزة، أو أي نهج آخر أحادي تجاه مصادر القوةالعديدة والمتنوّعة، وكذلك تجاه متطلّبات الحكم المختلفة، يضع أمام عملية صنع القرار تحدّيات أساسية. إنّ العقلانية في كل من هذه المجالات تنشأ من احتياجات وخصائص ذلك المجال، ويؤدي قياس أحد المجالات بمعايير مجال آخر إلى انزلاق استراتيجي. فمثلاً، عندما يتم عسكرة نظام العقلانية والمفاهيم والألفاظ والتعاطي مع ركائز المصالح الوطنية الأخرى بمنطق عسكري، أي النظر إلى جميع المجالات على أنها ساحة معركة، يطغى على الساحة عمل دون نتائج. استخدام كلمات مثل: الخط الأمامي، الجبهة مع الدبلوماسية والمقرّ للاقتصاد والثقافة يعني هيمنة الموقف العسكري على نظام الحكم في البلاد، بينما في ظل العمل لا يمكن أن تصل الدبلوماسية والاقتصاد والثقافة والتضامن الاجتماعي بل وحتى الأمن، إلى نهاية بلا نتجية أو نهاية سلبية. من الممكن النجاح في هذه المجالات فقط عندما يكون من الممكن التنبؤ بالفوائد التي تعود على جميع الجهات الفاعلة وتحقيقها. إنّ العمل الذي لا يؤدي إلى نتائج سينتهي في النهاية إلى ضرر جميع الفاعلين. وأعتقد بأنّ هذا أحد التحديات والصعوبات المعرفية الأساسية في البلاد، وفي حال لم يتم تصحيحه، فإنّ دبلوماسيّتنا ستفشل وستظلّ عرضة للخطر.

ويتمثّل التحدي الآخر في إهمال الحاجة إلى أن تكون الدبلوماسية عابرة للقطاعات. السياسة الخارجية لا ينبغي أن تقتصر على قدوم وجذب السفراء فقط، بل يجب أن يكون لوزارة الخارجية وجهة نظر عسكرية واقتصادية وأمنية وسياسية وثقافية وغيرها في نفس الوقت، لأنها المسؤول عن كافة العلاقات الخارجية. وفي بلادنا، تم تقليص دور وزارة الخارجية إلى هيئة مسؤولة عن تنفيذ جزء فقط من السياسة الخارجية، وليس السياسة الخارجية بأكملها، ناهيك عن العلاقات الخارجية. في الحقيقة وزارة الخارجية ليست قادرة على الإدارة الاستراتيجية للعلاقات الخارجية. وربما في دول أخرى، أصبح وزير الخارجية رمزًا للهيئة المسؤولة عن السياسة الخارجية قبل أن يكون رمزًا للعلاقات الخارجية. لكنّ الصحيح أنّ وزارة الخارجية يجب أن يكون لها وجهة نظر أوسع من المجالات أو النقابات. ولذلك كانت القيادة دائمًا تقول إنّ نصف الحكومة تقوم بعمل الوظائف الداخلية ووزارة الخارجية وحدها هي النصف الآخر من الحكومة، لأنها تقوم بعمل جميع الأجهزة الداخلية في الخارج. وهذه وجهة نظر للسياسة الخارجية.

هناك نهج آخر يقول إنّ كل مؤسسة لها سياستها الخارجية الخاصة، ووزارة الخارجية تنظم فقط اتصالات السفراء وما شابه ذلك. في هذه الحالة، ستصبح وزارة الخارجية حقًا مكتب ديبلوماسي وسيحدث تبديل في معالجة السياسة الخارجية. واليوم يسود النهج الثاني تجاه السياسة الخارجية. ولكن عند حدوث أي مشكلة يتّجه الجميع إلى وزارة الخارجية. وبتعبير أوضح، وزارة الخارجية ليس لها سلطة لكن يقع عليها مسؤولية. وهذا يشكل تحديًا أساسيًا في التعامل مع السياسة الخارجية. ولا يقتصر الأمر على القطاع العسكري فقط. عندما تكون هناك مثل هذه المشاكل داخل الحكومة، فمن المؤكد أن هناك حالة عدم تنسيق أكبر خارج الحكومة.

باختصار، تمثل الدبلوماسية قوة البلاد المتراكمة، وتُعتبر أيضًا من أبرز أدوات القوة الوطنية. هذا إطار معرفي، ولا شك أنّ الاتجاه المعرفي سيكون له انعكاس سلوكي وخطابي. إنّ الخلفية المعرفية والمهنية للناشطين لها تأثير أساسي على الإدراك المفهومي و المتابعة العملية للقوة.

للإطلاع على أبرز ما قدمته “جاده إيران” من كتاب مذكرات ظريف إضغط هنا

جاده ايران تلغرام
للمشاركة: